الأماكن وتناقضاتها

image (1).jpg
على ضفة نهر ميكونغ

ذلك الصباح كان كأي صباح آخر، ولكن ليس تحديداً كأي صباح آخر.

النهر الذي يفصل التلال عن بعضها يتدفق ببطىء يشبه بطء الوقت هنا. وهذا ما أردت أن أشعر به منذ سنوات طويلة. المطر الذي انهمر لساعات عند الفجر لم يجف بعد. أما الشمس فهي مختفية وراء كتل من الغيوم.

استيقظت على صوت تراتيل الرهبان القادم من التلة المقابلة على الضفة الاخرى من نهر ميكونغ. من بلاد اخرى، من لاوس.

***

هذا الصباح أوحى لي بظهيرة قضيناها أنا وصديقي طوني على ضفة نهر الدانوب في مدينة فيدين البلغارية. كل شيء يتشابه. النهر المتدفق ببطىء. كتل الغيوم التي حجبت متابعة القراءة “الأماكن وتناقضاتها”

دبي: كرنفال دائم للكريكت (Photography)

عشقت شعوب جنوب آسيا لعبة “الكريكت”. عشقوها حتى أصبحت جزءاً من ملامحهم، أيديهم، وثقافتهم. وهكذا، حملت الجاليات الهنديّة، الباكستانيّة والبنغاليّة هذه اللعبة إلى البلدان التي يهاجرون إليها بحثاً عن لقمة عيشهم. لذا، يُمكن ان نتخيّل المدينة التي يشكّل فيها هؤلاء حوالي أكثر من 60% من مجموع السكان . هنا بعض الصور (مع بعض التعليقات)، التقطها الاسبوع الماضي، في منطقة ديرة – دبي.

عامل باكستاني يلعب الكريكت- By Hanibaael

يوم الجمعة في مدينة دبي هو كرنفال الكريكت، إذ يخرج العمّال الهنود، الباكستانيّون والبنغال إلى الشوارع، الأسواق، والساحات ليُمارسوا بعضاً من الراحة بعد اسبوع شاق. هكذا، يمنح هؤلاء بعض من الحياة للساحات الرمليّة التي لم تأكلها الأبراج الشاهقة بعد، عبر ممارسة الكريكت (والعاب اخرى) من الصباح حتى مغيب الشمس. هناك فقط، يُمكن رؤية متابعة القراءة “دبي: كرنفال دائم للكريكت (Photography)”

باتايا: «أيقونة الأضداد» التي لا تهدأ

المدن حين نراها للمرة الأولى

“Good man go to Heaven, Bad man go to Pattaya”

هاني نعيم

هنا أرض الحريّة، تايلند. (thai تعني الحريّة باللغة التايلنديّة). البلاد التي لا تنام. وقد تكون مدينة باتايا أكثر المدن صخباً، ليس في تايلند وحدها، بل في العالم أجمع. المدينة التي لا تغفو، وليس ذلك المعنى المجازي للكلمة فحسب.

هنا، في باتايا، الوقت تتشاركه المعابد البوذية الدافئة والنوادي الليليّة المعتمة. لا شيء يفصل بينهما سوى بضع عشرات من الأمتار. فالبوذيّة لا تحتقر الفرح، والجنون.

والتسامح في كل مكان!

***

تبيع الورود لعشّاق المدينة. نشرت في جريدة السفير. by Hanibaael

الجميع، في باتايا، متساوون، رغم العيون الغارقة في الطيبة والفقر. كل ثقافة لها موقعها، زاويتها، وشارعها. في الحي الشرق أوسطي، ازدحام دائم. يبدو أنّ الشرق أوسطيين، من عرب، فرس وأتراك، لا يستطيعون العيش خارج الازدحام. تعرفهم من ملامحهم المختلفة عن سائر الجنسيّات. جاؤوا بكل ثقافاتهم إلى هنا. متابعة القراءة “باتايا: «أيقونة الأضداد» التي لا تهدأ”

سان فرانسيسكو: مدينة مشتعلة فوق الباسيفيك!

هاني نعيم
في سان فرانسيســكو، يطغى تناقض/ تناغم لا أحد يعـرف مصدره. أو حتّى متى تكوّن. البرد لا يفــارق المكان، ولا حتّى الوقت. كـذلك الدفء لا يفارق الجو الأليــف بين الناس، وكأنهم ذوو أصــول واحــدة. بينما في الواقع، هم مزيج لا يحصى. المكان يهضم كل عنــصر جــديد وافد إليه. يتلوّن به، ويضمّه إلى سائر الألوان التي تشكّل مزيجاً ثقافياً متدفّقاً.
قد يكون هذا التناقض/ التناغم أحد أسباب جاذبيّة المدينة. ربّما؟
***
San Fransisco by Hanibaael- published in As-safir newspaper
استطاعت المدينة أن تحافظ على الكثير من تاريخيّتها. المباني القديمة. الأزقّة المعبّدة بالأحجار القديمة. سكك الحديد الموزّعة في جميع أنحاء المكان. «الترامواي» الذي يستمر بعمله، كالمعتاد. وأيضاً، للحظة، تشعر وكأنك في بدايات القرن العشرين، لولا الحداثة (الأبراج العالية، مثلاً) التي تنخر كل شيء وتشوّه المشهد العام.
في الواقع، هنا، يمكنك أن تلاحظ بالعين المجرّدة تواجه الحداثة والتاريخ في معركة صامتة. متابعة القراءة “سان فرانسيسكو: مدينة مشتعلة فوق الباسيفيك!”

هنا هوليوود، هنا فينيس بيتش

هنيبعل.. يتسكّع في بلاد العم سام

هنا هوليوود. أرض النجوم الذين شكّلوا جزءاً من هويتنا على مدار أكثر من نصف قرن. السينما التي رسمت درباً آخراً للصورة والصوت واللون. هي الشاشة التي لا تتوقّف عن إثارة الجدل حول كل شيء. المفاهيم، القيم، الصور النمطيّة، الهويّة، الحرب، الأمل.. والترفيه!

في حي هوليود، في مدينة لوس انجلوس الأميركية، لا شيء يثير الدهشة. بعض المتاحف التاريخيّة حول هوليود، نجومها ومشاهيرها، و”درب النجوم” حيث تجد نجمة النجم الذي تحب وتأخذ صورة بجانبها.

صور تذكاريّة قرب نجمهم- By Hanibaael

وفي حي بيفرلي هيلز، قرب حي هوليوود، يمكنك أن تجد بيوت المشاهير، أمثال مايكل جاكسن، دكتور فيل، سيلفستر ستالون، توم كروز، كريستينا اغويليرا وغيرهم..

ما تجده في هذا الحي البارد، المغرور، مجرّد بيوت كبيرة وفخمة، هي أشبه بقصور تسكنها أشباح، حيث يتوارى في داخلها النجوم وخصوصيّتهم، بعيداً عن كل ما يجري على الكوكب. هو مكان للاثرياء. بالاحرى: فاحشي الثراء.

هنا، لا يمكنك أن تبحث عن انتماء ما. عن هويّة ما. عن زاوية متابعة القراءة “هنا هوليوود، هنا فينيس بيتش”

هنا بيروت الحديثة، هنا دمشق القديمة

هاني نعيم

هنا بيروت. ذُهِل الرجل الأربعيني القادم من المكسيك الحارّة، بهذه المدينة. لم يستطع كبتَ انطباعاته عنها، وقد قرأ عنها الكثير، قبل أن يأتي متلهّفاً لزيارتها، والغوص في تاريخها وحاضرها. في طريقه من بيروت إلى دمشق، أمطر زميله في الباص، بخيبة أمله.

المدينة ليست كما رسمها في مخيّلته، وبالحد الأدنى، ليست كما توقّعها. بحث في أزقّة بيروت عن كل ما يربط الإنسان بالذاكرة، وحقيقته المجرّدة. وفي كلّ مرّة، السراب كان أفقه!

ربّما، ذلك الرجل ليس وحده. الغرابة التي شعر بها في المدينة، تشبه لحد بعيد الغرابة التي يشعرها كل من يعتبر بيروت: مدينة الدفء المديتراني، ومختبر الأفكار والتجارب المتمرّدة على القوالب.

“النيوبربريّة”[1] تجتاح بيروت، كالصقيع الخبيث عندما يفتك بعظام الإنسان. تكفّلت الحرب الأهلية (1975-1990) بتهشيم وجهها. أما الحقبة التي تلتها، فكانت بمثابة إطلاق يد الوحوش للعبث بأحشاء المدينة. الجميع عبث بهويّتها، حتّى أصبحت تشبه كل شيء، ما عدا بيروت.

في البدء، قرصنوا وسط المدينة لصالح شركة خاصة، «أعادت إعماره» وفق تصوّرها «الاستهلاكي». وهكذا تحوّل الوسط من فسحة لجميع شرائح المجتمع، إلى ناد مغلق مقتصر على الأغنياء وثرواتهم. تحوّل من وسط يضجّ بالحرارة والعفويّة، يحضن تاريخ بيروت وهويّتها الثقافيّة، إلى فراغ بارد، جاف.. ومغرور!

هنا بيروت الحديثة – By Hanibaael

وفي أنحاء بيروت، بدأت تختفي الأحياء الصغيرة المحافظة على تراثها العمراني – الثقافي، أمام توسّع “ثقافة الأبراج”[2] الفارغة من كل شيء، إلاّ من الربح السريع. وفي السنوات الأخيرة، مع طفرة أسعار العقارات والشقق السكنيّة، دخل مشهد بشع إلى يوميّات المدينة، إذ يُدمّر بناء قديم[3] كل يوم ليرتفع مكانه برج يعود بأرباح ضخمة على أصحاب متابعة القراءة “هنا بيروت الحديثة، هنا دمشق القديمة”

هنا اليرموك، هنا شاتيلا

هنا اليرموك، هنا شاتيلا
هنا اليرموك، هنا شاتيلا

هاني نعيم

«متى نصل إلى المخيّم؟» سألت الرجل الذي يقودني إلى مخيّم اليرموك، جنوب دمشق، الذي يُعدّ من أكبر التجمعات الفلسطينية في العالم، خارج فلسطين. لم يتعجّب كثيراً، لكونها زيارتي الأولى ، وقال «نحن في المخيّم منذ 5 دقائق»! فجأة، استيقظت الذاكرة وصورها عن مخيّمات لبنان. وبدأت المقارنات. هنا، شوارع واسعة، تعبرها السيارات، وباصات النقل العام، وحتى «الفانات» الصغيرة. الأبنية لا تختلف عن سائر أبنية دمشق. ظروف الحياة وعناصرها موجودة في اليرموك كأي منطقة ومدينة أخرى في سوريا.

متابعة القراءة “هنا اليرموك، هنا شاتيلا”

هنا سيديروت، هنا غزّة!

هنا سديروت، هنا غزة
هنا سديروت، هنا غزة

هاني نعيم

استيقظ دافيد على وقع صوت والدته صارخة “هيّا إنهض. حضّر أغراضك التي تريد الأحتفاظ بها، سنذهب إلى تل أبيب. الصواريخ لا تصل إلى هناك”. يتفائل دافيد، فهو يعرف أنّ العاصمة  بمنأى عن الصراع الدائر مع الفلسطينيين واللبنانيين. فهي المدينة التي قصفت، لمرّة واحدة فقط، في الثمانينيات.

***

دافيد البالغ من العمر ستة عشر سنة، هو الابن الوحيد لعائلة بولنديّة، ولد هنا. يتابع ما يحصل من حوله، ولا يفهم لماذا يقوم بعض “الملّثمين” بقصف مدينته سيديروت بالصواريخ والقذائف. “ماذا فعلنا لهم ليواجهوننا بهذا الحقد؟” عبارة لطالما كررها بينه وبين نفسه عند تفكيره بكل ما يحدث في هذا “الشرق الاوسط السيء” كما يحب تسميته.

في هذه الأثناء، نهرته امّه “ألم تسمع ما قلته؟ هيّا”. لو كانت تخاف على ابنها من أن يموت بالصواريخ، لكانت نزلت به إلى الملجأ الذي يتّسع لكل قاطني المبنى، ومجهّز بكل المقوّمات الحياتيّة لبقاء هؤلاء لأيّام كثيرة هناك.. وربّما لأشهر. ولكنّها لا تريده حتّى أن يسمع دوّي الصوت، ويشعر بالهلع من جرّاء ذلك. عندها، أسرع دافيد إلى درج خزانته، تناول ألبوم صور قديم يحبّه كثيراً، إضافة لعلبة متوسطة الحجم تحتوي على “أقراص مدمجة” لموسيقى الروك التي تغريه، ويعتبرها “موسيقى التغيير الآتي”.

باختصار، دافيد كالكثيرين غيره الذين ولدوا في فلسطين، ولا يعرفون الكثير عن الواقع الحقيقي لما حدث، ويحدث على هذه الأرض الممتدة.

خلال دقائق، تجهّز دافيد وعائلته للتوجّه إلى تل أبيب، بعيداً عن كل شيء.

***

في المقلب الآخر من سيديروت، القصف على غزّة لم يهدأ منذ أسبوعين.

لم ينم أحمد منذ بدء الحرب. نومه متقطّع، ويبلغ 3 ساعات كحد أقصى يوميّاً. هنا، لا مقوّمات للحد الأدنى من الحياة، فالكهرباء والمياه عناصر غائبة منذ أشهر. فالوقت لم يعد له معنى. والقطاع سجن إبادة كبير، لا مجال للهروب منه. البربريّة تحاصر كل شيء: بحر المتوسّط، معبر أغلقه فراعنة، وجيش جبان يقوده نازيين. “متى يحين دوري وعائلتي؟” سؤال يطرحه أحمد في خلوته الليليّة، مع كل غارة قريبة من حي الزيتون حيث يقطن.

***

احمد لا يكره أحد. يحب الموسيقى، والرقص والمسرح. يحلم بحديقة عامّة في مدينته ليلاقي بها الصبية التي يحب. ويحلم بسلام يعطيه فسحة من الهواء الخالي من الفوسفور والدخان والموت. ولكنه يناهض كل أشكال  العنصريّة، ويرفض احتلال أرضه، لتحوّل بذلك إلى مسخ بغيض.

ليس لديه ما يخسره، بعد استشهاد أغلب أقربائه في غارات اليوم الأوّل. الحريّة بالنسبة له أثمن ما لدى الانسان. سيقاوم بيديه كي لا يفقدها. وسيبقى هنا على صدورهم كالجدار، كما كتب مرّة الشاعر توفيق زيّاد.

***

نزل دافيد وعائلته لدى أقاربهم. تعرّف على أصدقاء جدد من جيله، بينهم فتاة أعجبته، وهو أعجبها أيضاً، خصوصاً وأنّه “بطل” بنظرها، فهو “الآتي من أرض المعركة” كما قالت لصديقتها حافظة أسرارها. دعاها إلى السينما لحضور فيلم رومنسي. قبلت الدعوة بتردد ظاهري، ولكن بسرّها كانت الفرحة تغطّي مساماتها. “كيف لا أقبل دعوة للسينما من شجاع يقطن سيديروت؟” رددت بداخلها.

حين كانت تسدل الستارة معلنة أنتهاء الفيلم وبدء العلاقة بين دافيد واولغا، كانت مروحيّات الآباتشي تمشّط المبنى الذي يقطنه أحمد وعائلته معلنة نهاية حياتهم.

***

يوماً ما، إذا قرر دافيد الخروج عن الطاعة الأبويّة لعنصريّة بلاده، ومعرفة حقيقة أنّه يعيش على أشلاء مدينة فلسطينيّة قديمة، سيعرف عندها جيّداً سبب “قصف هؤلاء الملثمين للمدن الاسرائيلية”، وسيَفهم معنى أن يكافح الإنسان من أجل حريّة بلاده، ومعنى الحياة في ظل ظروف الموت. وعندها يعرف أن ما عاشه من ظروف “أليمة” لا تساوي شيئاً أمام ما أرتكبته بلاده بحق شعب بأكمله على بعد عشرين كيلومتراً من شرفة منزله في سيديروت.

كتبت في الأسبوع الثاني من بدء إبادة سكّان غزة.