استرجاع الفضاء العام

الغرافيتي والإنتفاضات العربيّة

الجزء التاسع (والأخير): استرجاع الفضاء العام


جاءت حركة الغرافيتي العربيّة انعكاساً لمشهد التحوّل الذي تعيشه هذه المنطقة من العالم، وكانت أبعد من مستوى التوقعات. اتت هذه الحركة لترسم على طريقتها حقبة جديدة من الحريّة. وأبرز ما حققه الربيع العربي هو استرجاع الشعوب للفضاء العام: الساحات، الشوارع، والجدران، بعد نصف قرن من استحواذ الأنظمة وأجهزتها القمعيّة لكل شيء، حتى بات الإنسان في هذه المجتمعات مجرّد رقم في السجلات الرسميّة. لذا، أصبحنا نُعرف عن ميدان التحرير في القاهرة، ساحة العاصي في حماه، دوّار اللؤلؤة في المنامة، وساحة التغيير في صنعاء. وقد استطاعت الشعوب أن تُعيد الاعتبار إلى الفضاء العام، عبر تحويل هذه الساحات إلى فضاء للحريّة، التعبير والتجمّع الشعبي.

وقد أعاب بعض المثقفين والكتّاب على الثورات خروجها من الجوامع، معتبرينها دينيّة، وخاضعة لسلطة الجامع، ولكن هذا يبدو طبيعيّاً في بلدان اختفى منها الفضاء العام، واستحوذت عليه الدكتاتوريّات، حتى لم يبقى للشعوب سوى مكان واحد للتجمّع والتآمر على الأنظمة، وهو: الجامع.

ورغم وصول الإسلاميين إلى السلطة في كل من مصر وتونس، واحتمالاته في دول اخرى، فهذا أمر طبيعي في ظل، صعود الحركات الأصوليّة، بشقيها السنّي والشيعي، والتدمير الممنهج لمدى نصف قرن للقوى والطاقات المدنيّة في العالم العربي. ولكنّ هذا لا يعني نهاية عهد الإنتفاضات والثورات مع سقوط الأنظمة الحاليّة. المعركة التي متابعة القراءة “استرجاع الفضاء العام”

غرافيتي النيل: حريّة الجسد في مواجهة السلطة (3/3)

الغرافيتي والإنتفاضات العربيّة

الجزء الثالث: حريّة الجسد في مواجهة السلطة (3/3)

هنا تجدون الجزء الأوّل والثاني من تجربة الغرافيتي المصري

غرافيتي النيل: الشارع بيتكلّم ثورة! (3/1)

غرافيتي النيل: الثورة مستمرّة ضد العسكر (3/2)

***

أثناء الثورات، تكون المجتمعات في حراك عميق يَطال كافة البنى الإجتماعيّة- الثقافيّة، الفكريّة والسياسيّة. في هذه اللحظات، تتشكّل ملامح حقبة جديدة لعالم ما بين الأزرقين. الجميع يخرج من الخزانة. والقضايا التي سُكِتَ عَنْها في السابق، تأخذ حيّزها من المجال العام، وأبرزها: حريّة الجسد!

ولكن لماذا خرجت قضيّة “حريّة الجسد” تحديداً إلى الفضاء العام؟ لنُعيد تركيب المشهد من جديد. من جهّة، العسكر في سُدّة الحكم. يحتلّون كل شيء: السلطة، الهواء، الميدان، والشارع. يُمكن تخيّل العسكر في السلطة. هو القمع بلا مستحضرات التجميل التي عادة يتولّاها السياسيّون. هي الذكوريّة بكل عنفها تستولي على الحيّز العام. ومن جهّة اخرى، سيطرة الإسلاميين على شريحة واسعة من الشارع المصري. والحركة السياسيّة الدينيّة التي تضع صورة رجل (زوج إحدى المرشّحات لأحد المقاعد البرلمانيّة) يُمكن أن نُعرف رأيها في المرأة، وحريّتها. حركة كهذه يُمكن أن نَعرف كميّة الذكوريّة السلطويّة التي تختزن في فكرها وممارستها. وفي المحصّلة، نظام جديد يقوم على تحالف تلك القوى الاستبداديّة، أي العسكر والاسلاميين، من أجل حكم البلاد. الآن، أصبحت الصورة أوضح قليلاً، لماذا خرجت الآن قضيّة “حريّة الجسد”!

بدأت هذه القضيّة تتفاعل، عندما قام عسكر وضباط من الجيش المصري، باعتقال سميرة إبراهيم (35 عاماً)، وإجراء لها بالقوّة (طبعاً!) فحص العذريّة، للتأكّد مِن ما إذا كانت عذراء أم لا. لم ترضخ سميرة لهذا الواقع الذكوري. رفعت دعوى قضائيّة ضد الإجراء هذا ومن قام به. وقد انتصر القضاء لسميرة، واعتبر أنّ إجراء هذا النوع من الفحوص باطل، وغير قانوني.

 لاحقاً، قامت المدوّنة الشابة علياء المهدي بنشر صورها عارية على مدوّنتها الشخصيّة، متحدّية بذلك السلطة الذكوريّة على جسد المرأة. وهذا ما اثار جدلاً واسعاً بين مختلف التيارات الفكريّة في مصر (وخارجها)، بين مؤيّد ومُعارض لما قامت به علياء. موقف الإسلاميين غير مفاجىء. ارتفعت الأصوات المُطالبة بإنزال اشدّ العقوبات بعلياء، ومنها الموت. وأيضاً موقف أغلب اليساريين والليبراليين والعلمانيين غير مُفاجىء. شُنّت الكثير من الحملات ضد علياء تحت حجج كثيرة، وأبرزها أنّ ما قامت به “ليس في وقته. والأولويّات الآن مختلفة”، علماً أنّ المنظومة السياسيّة المنهارة في العالم العربي حكمت نصف قرن بسبب هذه الحجّة تحديداً “ليس في وقته، واختلاف الأولويّات”، إذ كانت بالنسبة للمنظومة البائدة حجّة “تحرير فلسطين” أفضل حجّة لقمع الحريّات، والإبقاء في السلطة. وطبعاً حجّة “تحرير فلسطين” مازالت سارية في المفعول في الكثير من هذه الدول.

هذين الحدثين أخذا حيّزهما من الشارع عبر جداريّة تُصوّر سميرة وعلياء (صورتها العارية التي اشتهرت بها)، مُشيرة إلى تعاطي الإعلام (والناس بشكل عام) مع هذين الحدثين، إذ لم تلقى “قضيّة سميرة” الكثير من التغطية الإعلاميّة والمتابعين، رغم أنّه تم تعريتها بالقوّة، وإهانة كرامتها الإنسانيّة، بينما “قضيّة علياء” حازت على اهتمام الجمهور والإعلام بشكل كبير، مع أنّها تعرّت، ونشرت صورها بمحض إرادتها. في كل الأحوال، الفحص الذي تعرّضت له سميرة مُسيء بحقّ الجميع، ومرفوض من كل جوانبه. وما قامت به علياء حق لها، يجب أن يتم صيانته. ورغم اختلاف الحالتين، فإنّ جوهر هذه المسألة واحد، وهو تمرّد جديد تشهده مصر. هذه المرّة تمرّد نسوي على السلطة الذكوريّة الإستبداديّة.

“الصدريّة الزرقاء” ضد النظام!

لم تُغلق القضيّة بعد. واستمرّ المشهد. مجموعة من العسكر، في ميدان التحرير، وهم يقومون بضرب، سحل، وتعرية تلك الشابة التي أصبحت تُعرف بـ”الفتاة ذات الصدريّة الزرقاء” استطاع دون جهد أو عناء أن يأخذ حيّذه من ذاكرتنا الجماعيّة. وذلك ليس فقط لأنّ المشهد يختزن كميّة كراهيّة وعنف استثنائيين. استطاعت هذه الصورة اختزال حقبات طويلة من سيطرة الذكوريّة على منطق التاريخ، الذي نعيشه.

أراد هؤلاء العسكر بعنفهم الذي بدا غير محدوداً أن يؤكدوا أنّهم مازالوا مُسيطرون على المشهد بكل عناصره: الميدان، الهواء، الحركة.. والأجساد. تعريتهم لتلك الشابة (التي لا نعرف اسمها بعد)، كان محاولة ليقولوا أنّ جسد الأنثى سيبقى تحت رحمتهم، وسلطتهم الهشّة.

تلك الصورة التي تناقلها الإعلام، بشقّيه الكلاسيكي والإجتماعي، وكان لها وقعها على العالم أجمع، لم تَعُد مجرّد صورة. والفتاة بصدريّتها الزرقاء، أيّاً كان متابعة القراءة “غرافيتي النيل: حريّة الجسد في مواجهة السلطة (3/3)”

غرافيتي النيل: الثورة مستمرّة ضد العسكر (3/2)

الغرافيتي والإنتفاضات العربيّة

الجزء الثاني: غرافيتي النيل، الثورة مستمرّة ضد العسكر (3/2)

 هنا تجدون الجزء الأوّل من تجربة الغرافيتي المصري

غرافيتي النيل: الشارع بيتكلّم ثورة! (3/1)

***

غرافيتي ما بعد الثورة

الثورة المصريّة لم تنتهي مع خلع مُبارك. قد تكون بدأت مع اقتلاعه، خصوصاً بعد أن استولى العسكر على السلطة. استمرّ مشهد القمع في المدن والقرى وكأنّ شيئاً لم يكن. هبط الحراك الشعبي بشكل واضح، خصوصاً مع خروج الإسلاميين (الإخوانيين والسلفيين)، الذين يشكّلون الشريحة الأوسع، من المشهد العام للشارع. بالنسبة لهم، لا مانع من استمرار قبضة المجلس العسكري على الحكم، بما أنّهم سيحصلون على الأغلبيّة في الانتخابات الجديدة. وهكذا، لم يبقى في الشارع إلاّ الرافضين لحكم العسكري والديني على حدٍ سواء، من مدنيين، علمانيين، ليبراليين ويساريين.

المصدر: مدوّنة Suzee in The city

في هذه الأثناء كانت المواجهة محتدمة أكثر بين القوى المدنيّة الرافضة لحكم العسكر والمجلس العسكري. . وبعد أن كان المجلس العسكري، أو SCAF حسب الاختصار الإنكليزي له، حائز على احترام الشعب المصري، وشبه “مقدّس”، أصبح هو الهدف التالي لحملات الغرافيتي في الشارع. وقد تُرجمت هذه المواجهة في الأعمال البصريّة التي تصاعدت حدّتها بشكل ملحوظ.

وبعد أن استولى مُبارك ورموز نظامه في السابق على الجدران. يغيب اليوم بشكل لافت. الآن، جاء دور المشير الطنطاوي، القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ورموز “المجلس” ليحتلوا المكان. أعمال الغرافيتي مركّزة مباشرة عليهم.

المصدر: مدوّنة Suzee in The city

أحد أعمال الغرافيتي شبّهت أحد قادة المجلس العسكري، الذي اشتهر بقراءة البيانات للشعب المصري، بالدكتاتور المخلوع معمّر القذّافي، حيث رُسم مع بذلته العسكريّة، رافعاً سبّابته إلى الأعلى مع سؤال “من أنتم؟” الذي يُعتبر من أشهر الأسئلة التي وجهها القذافي إلى ثوّار ليبيا. أما قائد الشرطة العسكريّة حمدي بدين، المُتّهم بقتل الثوّار، فقد أصبح، بحِكم متابعة القراءة “غرافيتي النيل: الثورة مستمرّة ضد العسكر (3/2)”

غرافيتي النيل: الشارع بيتكلّم ثورة! (3/1)

الغرافيتي والإنتفاضات العربيّة

الجزء الأول: غرافيتي النيل، الشارع بيتكلّم ثورة!

قد تُعتبر تجربة الغرافيتي المصريّة أكثر التجارب المتقدّمة في عالم ما بين الأزرقين. وهذا يُعتبر طبيعي في مجتمع يتخطى تعداده الخمسة وثمانين مليون نسمة. ولكن ما الذي يجعل فعلاً التجربة المصريّة مختلفة عن غيرها من التجارب العربيّة؟

الرسم والكتابة على الجدران في مصر ليست عادة طارئة على هذه الحضارة التي تمتد إلى الآف السنين قبل الميلاد. إذ اعتبرت تلك الفنون أبرز عنصر من عناصر الطقوس الدينيّة والثقافية في الحضارة القديمة لمصر. ولوهلة، تبدو حركة الغرافيتي المصريّة وكأنّها امتداد لتلك الروح القديمة. جذورها في أعماق تاريخ مصر، وغصونها في قلب القرن الحادي والعشرين.

وإن كانت الرسوم القديمة على الجدران هي تعبير عن طقوس دينيّة، وتحمل في طيّاتها الفرح، الموسيقى والرقص للآلهة (الجميلة)، فالغرافيتي الحديث مازال يحمل تلك الروح التي تضجّ بها مصر القديمة.

من مدوّنة Suzee in the City

مع بدء ثورة 25 يناير، وهي التسمية المحليّة للثورة المصريّة، تفاعل ناشطو وفنانو الغرافيتي مع الأحداث. كل يوم بيومه. وكل حدث بحدثه. السلطة تقمع في الشارع، وهُم يردّون على طريقتهم على جدران مدنهم. الأمن يغتال أحد الشبان. في اليوم الثاني، يتحوّل ذلك الشاب إلى رمز تنتشر رسومه على جدران القاهرة، الاسكندريّة، المنصورة، وغيرها من المدن المصريّة التي حوّل الشباب والشابات جدرانها إلى مساحة من الحريّة الغير مشروطة. لا شكّ أن الثورة هناك  استطاعت إخراج المسكوت عنه من الخزانة، وإطلاقه في فضاء النيل. هكذا، أصبحت الجدران ميدان تحرير آخر.

فنون الشارع في مصر تتراوح ما بين أعمال الغرافيتي و”الستنسيل”. ولكل ناشط غرافيتي طريقته الخاصة في التعبير، بحيث يُمكن معرفة صاحب العمل حتى عندما لا يقوم بوضع توقيعه عليه، أو حتّى دون أن بتبنّاه على شبكة الانترنت. خصوصاً، وأنّ بعض الناشطين والناشطات يستخدمون عبارات أو شخصيّات محددة، أصبحت مع الوقت جزءاً من أسلوبهم. وهذا ما أغنى تجربة الغرافيتي هناك، خصوصاً على الصعيد الإجتماعي- الثقافي، السياسي، والبصري.

***

الشهداء أوّلاً!

هذه المرّة الناس كانوا من يحددون السقف. سقف كل شيء. قلبوا المعادلة على طريقتهم. رفضوا أن يبقوا مجرّد أرقام “قوميّة” في سجلات النظام وأدواته الأمنيّة. وقد يكون الفيلم القصير “رقم قومي” لأحد المخرجين الشباب الذي صدر منذ ثلاث سنوات تقريباً، الأكثر تعبيراً عن حال المواطن المصري قبل نشوء الثورة.

ما حاولت الدكتاتوريّة أن تصوغه طيلة عقود من “تجهيل” للناس، واعتبارهم مجرّد إحصائيّة لا صوت لها، أو هويّة. إنهار مع بدء الثورة.

جداريّة لشهداء الثورة المصريّة. المصدر: مدوّنة Suzee in the City

لذا، لم يعد الإنسان المصري مجرّد رقم أو إحصائيّة. بل أصبح لكل إنسان حياة. ومن يُقتل في المظاهرات على أيدي الأمن، يُسمى باسمه. وتُسرد قصّته في كل مكان، تأكيداً على أنّ من قتل في المعركة اللاعنفيّة ضد النظام، ليس مجهول الهويّة. وهذا ما تركّزت عليه أعمال الغرافيتي، وقد تكون أبرزها الحملة التي قام بها الناشط الذي يُعرف باسم “جنزير”، وهدفت إلى رسم وجوه الشهداء واسمائهم في أنحاء العاصمة.

وجوه شهداء الثورة أصبحت معلم من معالم الحياة اليوميّة للشارع المصري. وقد يكون أبرز رمز للشهداء الشاب “خالد سعيد” الذي عُذّب وقُتِل متابعة القراءة “غرافيتي النيل: الشارع بيتكلّم ثورة! (3/1)”