الغرافيتي والإنتفاضات العربيّة
الجزء الثالث: حريّة الجسد في مواجهة السلطة (3/3)
هنا تجدون الجزء الأوّل والثاني من تجربة الغرافيتي المصري
***
أثناء الثورات، تكون المجتمعات في حراك عميق يَطال كافة البنى الإجتماعيّة- الثقافيّة، الفكريّة والسياسيّة. في هذه اللحظات، تتشكّل ملامح حقبة جديدة لعالم ما بين الأزرقين. الجميع يخرج من الخزانة. والقضايا التي سُكِتَ عَنْها في السابق، تأخذ حيّزها من المجال العام، وأبرزها: حريّة الجسد!
ولكن لماذا خرجت قضيّة “حريّة الجسد” تحديداً إلى الفضاء العام؟ لنُعيد تركيب المشهد من جديد. من جهّة، العسكر في سُدّة الحكم. يحتلّون كل شيء: السلطة، الهواء، الميدان، والشارع. يُمكن تخيّل العسكر في السلطة. هو القمع بلا مستحضرات التجميل التي عادة يتولّاها السياسيّون. هي الذكوريّة بكل عنفها تستولي على الحيّز العام. ومن جهّة اخرى، سيطرة الإسلاميين على شريحة واسعة من الشارع المصري. والحركة السياسيّة الدينيّة التي تضع صورة رجل (زوج إحدى المرشّحات لأحد المقاعد البرلمانيّة) يُمكن أن نُعرف رأيها في المرأة، وحريّتها. حركة كهذه يُمكن أن نَعرف كميّة الذكوريّة السلطويّة التي تختزن في فكرها وممارستها. وفي المحصّلة، نظام جديد يقوم على تحالف تلك القوى الاستبداديّة، أي العسكر والاسلاميين، من أجل حكم البلاد. الآن، أصبحت الصورة أوضح قليلاً، لماذا خرجت الآن قضيّة “حريّة الجسد”!
بدأت هذه القضيّة تتفاعل، عندما قام عسكر وضباط من الجيش المصري، باعتقال سميرة إبراهيم (35 عاماً)، وإجراء لها بالقوّة (طبعاً!) فحص العذريّة، للتأكّد مِن ما إذا كانت عذراء أم لا. لم ترضخ سميرة لهذا الواقع الذكوري. رفعت دعوى قضائيّة ضد الإجراء هذا ومن قام به. وقد انتصر القضاء لسميرة، واعتبر أنّ إجراء هذا النوع من الفحوص باطل، وغير قانوني.
لاحقاً، قامت المدوّنة الشابة علياء المهدي بنشر صورها عارية على مدوّنتها الشخصيّة، متحدّية بذلك السلطة الذكوريّة على جسد المرأة. وهذا ما اثار جدلاً واسعاً بين مختلف التيارات الفكريّة في مصر (وخارجها)، بين مؤيّد ومُعارض لما قامت به علياء. موقف الإسلاميين غير مفاجىء. ارتفعت الأصوات المُطالبة بإنزال اشدّ العقوبات بعلياء، ومنها الموت. وأيضاً موقف أغلب اليساريين والليبراليين والعلمانيين غير مُفاجىء. شُنّت الكثير من الحملات ضد علياء تحت حجج كثيرة، وأبرزها أنّ ما قامت به “ليس في وقته. والأولويّات الآن مختلفة”، علماً أنّ المنظومة السياسيّة المنهارة في العالم العربي حكمت نصف قرن بسبب هذه الحجّة تحديداً “ليس في وقته، واختلاف الأولويّات”، إذ كانت بالنسبة للمنظومة البائدة حجّة “تحرير فلسطين” أفضل حجّة لقمع الحريّات، والإبقاء في السلطة. وطبعاً حجّة “تحرير فلسطين” مازالت سارية في المفعول في الكثير من هذه الدول.
هذين الحدثين أخذا حيّزهما من الشارع عبر جداريّة تُصوّر سميرة وعلياء (صورتها العارية التي اشتهرت بها)، مُشيرة إلى تعاطي الإعلام (والناس بشكل عام) مع هذين الحدثين، إذ لم تلقى “قضيّة سميرة” الكثير من التغطية الإعلاميّة والمتابعين، رغم أنّه تم تعريتها بالقوّة، وإهانة كرامتها الإنسانيّة، بينما “قضيّة علياء” حازت على اهتمام الجمهور والإعلام بشكل كبير، مع أنّها تعرّت، ونشرت صورها بمحض إرادتها. في كل الأحوال، الفحص الذي تعرّضت له سميرة مُسيء بحقّ الجميع، ومرفوض من كل جوانبه. وما قامت به علياء حق لها، يجب أن يتم صيانته. ورغم اختلاف الحالتين، فإنّ جوهر هذه المسألة واحد، وهو تمرّد جديد تشهده مصر. هذه المرّة تمرّد نسوي على السلطة الذكوريّة الإستبداديّة.
“الصدريّة الزرقاء” ضد النظام!
لم تُغلق القضيّة بعد. واستمرّ المشهد. مجموعة من العسكر، في ميدان التحرير، وهم يقومون بضرب، سحل، وتعرية تلك الشابة التي أصبحت تُعرف بـ”الفتاة ذات الصدريّة الزرقاء” استطاع دون جهد أو عناء أن يأخذ حيّذه من ذاكرتنا الجماعيّة. وذلك ليس فقط لأنّ المشهد يختزن كميّة كراهيّة وعنف استثنائيين. استطاعت هذه الصورة اختزال حقبات طويلة من سيطرة الذكوريّة على منطق التاريخ، الذي نعيشه.
أراد هؤلاء العسكر بعنفهم الذي بدا غير محدوداً أن يؤكدوا أنّهم مازالوا مُسيطرون على المشهد بكل عناصره: الميدان، الهواء، الحركة.. والأجساد. تعريتهم لتلك الشابة (التي لا نعرف اسمها بعد)، كان محاولة ليقولوا أنّ جسد الأنثى سيبقى تحت رحمتهم، وسلطتهم الهشّة.
تلك الصورة التي تناقلها الإعلام، بشقّيه الكلاسيكي والإجتماعي، وكان لها وقعها على العالم أجمع، لم تَعُد مجرّد صورة. والفتاة بصدريّتها الزرقاء، أيّاً كان متابعة القراءة “غرافيتي النيل: حريّة الجسد في مواجهة السلطة (3/3)”