تسعينيات لبنان: الطوائف من خلال التلفزيون

Main-90s-Lebanon-tvs (1)

 

هاني نعيم

اتذكرون برنامج “نهاركم سعيد” الذي بدأ عرضه على شاشة “المؤسسة اللبنانية للإرسال – LBC”، التي تعتبر شاشة مسيحيي لبنان خلال الحرب وما بعدها؟

بدأت المحطة عرض هذا البرنامج في عام 1996، وقد تضمن مسابقة “الكنز المفقود”. هذه المسابقة تتكوّن من شيء مخبأ في الصندوق، وعلى المشاهدين الاتصال ومعرفة ما هو هذا الشيء، من خلال طرح ثلاثة اسئلة، والذي يحزر ما هو الشيء الذي في الصندوق، يفوز بجائزة قيّمة.

في تلك الفترة، بدأ مسيحيو لبنان يتقبّلون فكرة أنهم ضيوف عند اخوانهم المسلمين الذين انتصروا في الحرب الأهليّة، وبدأوا أيضاً بتقبّل فكرة أنّ قياداتهم لا مكان لها بالمعادلة السياسية. هكذا خسر المسيحيون “الوطن”، وحلّ الإحباط في روحهم، وترجمة لهذا الإحباط أصبحوا يبحثون عن “الكنز المفقود” عبر شاشة الـ “ال بي سي”.

هكذا، استبدل المسيحيون وطنهم الضائع بـ”كنز مفقود” يبحثون عنه من وراء شاشات التلفزيون أثناء جلوسهم على الكنبة. هذه الخطوة هي استكمال لانسحابهم من المشهد العام للبلاد بعد مقاطعتهم للانتخابات البرلمانيّة عام 1992، وتعيين نواب مسيحيين موالين للوصاية البعثيّة على لبنان.

في هذه الأثناء، بدأت الليبراليّة تنتشر في الأوساط المدينية للطائفة السنيّة. تمثل هذا الانتشار تلفزيونياً بسماجة الإعلامي ميشال قزي (ميشو) المشهور بعبارة “خمسة وعشرين ثانية الك”. كان برنامجه الترفيهي يعرض على قناة المستقبل التي يملكها الرئيس الراحل رفيق الحريري، أحد أعمدة النظام اللبناني في مرحلة ما بعد التسعينات. ونتيجة للتزاوج ما بين الترفيه والليبراليّة السنيّة ولدت سماجة “ميشو” التي لم تنحصر بلبنان بل شملت العالم العربي كله.

وفي ما بعد التسعينات، تشكلت فئة من المجموعات السكانية في لبنان لا تنتمي للمعسكرات السياسيّة. هي خارج المعادلات الطائفيّة، وتؤمن بالدولة كبديل عن الميليشيات. هذه الفئة هي التي كانت تشاهد مسلسل “العاصفة تهب مرتين”، الذي عرض على شاشة “تلفزيون لبنان”، وقد عالج بعض المسائل الاجتماعيّة في لبنان، ولكن بقي، كغيره من المسلسلات اللبنانيّة، خارج السياق اللبناني. ففي هذا المسلسل مثلاً، لا أسماء طائفية او دينيّة للشخصيات. كل الأسماء فيه تنتمي لكتاب القراءة الذي كتبته “الدولة اللبنانية” وهي: زياد، سامر، نادر، نهلة، غوى، سوزي وغيرها. كما أنّ نسبة الفقراء في المسلسل متدنية جداً، والغالبية تعيش في قصور فخمة.

بحث المسيحيون عن الكنز المفقود لم يعنِ استسلامهم، إذ بلوروا هويتهم السياسيّة من خلال لعبة كرة السلة. ومع صعود نجم فريق الحكمة الرياضي، الذي فاز بالدوري اللبناني لكرة السلة وبعدة بطولات عربيّة وآسيويّة، أصبحت “الحكمة” هي طريق المسيحيين للسياسة.

في ذلك الحين، كان لتلفزيون “المؤسسة اللبنانية للارسال” الحق الحصري بنقل مباريات الدوري، وكان يتوسّط قميص فريق الحكمة شعار الـLBC. وأثناء المباريات كان يرتفع متابعة القراءة “تسعينيات لبنان: الطوائف من خلال التلفزيون”

انقطاع الكهرباء: سرديّة الحرب والسلم في لبنان

 

e87b6e72a7651b1510847013dbf0aa34.jpg

هاني نعيم

إنها الساعة السابعة مساءً من إحدى ليالي الشتاء الطويل في لبنان. انقطعت الكهرباء. يتم احضار الشمعة او لمبة فلوريسنت تعمل على البطاريّة. تجتمع العائلة كلها، وبما أنّ التلفلزيون لم يعد له أي قيمة، ككل الآلآت والمكنات، في ظل انقطاع الكهرباء، فإنّ العائلة ستأخذ دور التلفزيون عبر سرد القصص القديمة.

كلما انقطعت الكهرباء، يحلّ الصمت، تجتمع العائلة، يتوقف السلم الأهلي، تُضاء الشمعة التي على ظلها يتم استحضار روح الحرب الأهليّة التي استمرت قرابة عقد ونصف. ويبدأ سرد القصص من الأب، الأم، وأحياناً العم(ة) وكل من عاش أحداث الحرب وكان حاضراً لحظة انقطاع الكهرباء.

في التسعينات وحتى عام 2005، لم تعش البلاد أحداث مهمة. كانت الحرب قد انتهت بعد هدنة الطائف، ودخلت البلاد في جو من السلم الأهلي المزيّف. هكذا، كانت الحكايا والقصص التي تسرد مع انقطاع الكهرباء تتمحور حول الحرب الأهليّة التي عاشها الأهل.

إذا ولدت في الثمانينات، فإنّ ذاكرتك في التسعينات تحمل هذا المشهد.

عادة ما تملك العائلة حوالي 4 قصص أساسيّة عن الحرب. ترويها مراراً وتكراراً. وكأنّ الحرب بالنسبة لها هي مجرّد عدد محدود جداً من الأحداث، أما سنوات الحرب فهي مجرّد تمرير للوقت، والبقاء على قيد الحياة. هذه القصص تتشاركها أغلب العائلات تقريباً، ويكاد يكون هناك سرديّة واحدة لجميعها.

قصة ميلادك: “انت خلقت بيوم قصف وضرب”. هذه القصة مركزيّة في ذاكرة العائلة لأسباب عديدة منها، أنّ الناس أثناء الحرب تتزواج وتتكاثر بنسبة مرتفعة خوفاً من الإنقراض والموت من جهة، ومن جهة اخرى، هي تعبير عن إرادة الحياة ومقاومة للموت وأيضاً سخرية من الحرب بحد ذاتها.

ولأنّ الحرب الاهلية التي استمرت قرابة عقد ونصف هي عبارة عن حروب صغيرة داخل الحرب الكبرى، فالجيل الذي ولد في منتصف السبعينات والثمانينات هو الجيل الذي ولد خلال “حرب السنتين”، “حرب الاجتياح”، “حرب الجبل”، “انتفاضة 6 شباط”، “معركة العلمين”، “حرب المخيمات”، “حرب الالغاء”، “حصار زحلة”، و”حرب عون” وغيرها من المعارك الجانبيّة.

Checkpoint_4,_Beirut_1982

قصة عبور الحواجز: دائماً ما يذكر والدي الطريقة والنبرة (attitude) التي كان يتحدث إليها للمقاتلين الذين يقفون على الحواجز، وكيف أنّ لكل ميلشيا لها طريقتها في التعامل معها للعبور بسلام دون أي مشاكل. كما ويذكر الطريقة التي كانت فيها والدته (جدتي التي لم اعرفها) تتحدث بها إلى المسلحين على الحواجز أثناء عبورها مع أطفالها، إذ عادة ما كانت توبّخهم بثقة، وهذا ما ساعدها على التنقل دون مشاكل.

الحواجز التي كانت تقيمها الميليشيات، في كل الطرقات الرئيسية والفرعيّة، شكّلت أبرز ملامح الحرب الأهليّة. كان يستلزم انتقال العائلة من بيروت إلى المتن مثلاً، حيث تقع قرية والدتي، ساعات طويلة. وللوصول إلى هناك، كان على الأهل أن يمرّوا على حواجز تابعة للحزب التقدمي الاشتراكي، حزب الكتائب، المرابطون، القوات اللبنانية، حركة فتح، حركة أمل، والشيوعي، إضافة إلى حواجز الجيوش المحتلة، أي الجيش البعث السوري والجيش الإسرائيلي.

قصة الخطف في يوم اسود: يُخبرنا والدي عن اليوم الذي نجا فيه من الخطف عندما كان عائداً من عمله في الكرنتينا. ولكنّ أكثر قصة يسردها مراراً وتكراراً هي قصة اختطافه من قبل إحدى الميليشيات الطائفيّة في يوم كان مليء بالخطف العشوائي.

“كنت راجع من شغلي وخطفوني. وقتها كنّا شي عشرين شخص بالاوضة، وجابولنا جلاد كان مخطوف من ميليشيا تانية. وبلّش يفش خلقو فينا. كان وقتها يرمينا ع الدرج نحن ومربطين ويسألنا “مبسوطين؟”. بتذكر لما حطوني باوضة وكيس براسي، كان بدو يصفيني. وقتها، بسمع صوت حدا من الاوضة التانية عم يقول “ما تقوصوا، هيدا الزلمي من حينا”. وهيك زمطت”.

كل عائلة تقريباً لديها قصة تسردها عن الخطف، ورغم مرور 26 سنة على توقيع اتفاق الهدنة التي كرّست هزيمة المسيحيين وانتصار المسلمين في لبنان، مازال هناك العشرات من الأشخاص الذين اختفطوا خلال الحرب ولم يعودوا حتى اليوم إلى منازلهم، ومازالت عائلاتهم بانتظارهم. البعض منهم وجد في مقابر جماعيّة اكتشفت بعد الحرب، وآخرون مازالوا في سجون النظام البعثي في سوريا، وآخرون لا معلومات عنهم.

قصة “زمطنا ع لحظة”: لوالدي ووالدتي عدة قصص عن “الزمطة من الموت”، وعن المرات التي قصف فيها الحي الذي نقطن فيه في وطى المصطيبة. في عام 1976، سقطت قذيفة أثناء قصف الجيش السوري لبيروت الغربيّة على منزلنا، وأصيبت جدتي حينها، لتتوفى بعدها بسنوات عدة. وخلال الاجتياح عام 1982، قصف الجيش الإسرائيلي أحد منازل الحي الذي يسكنه فلسطينيّون مع حركة فتح.

القصف العشوائي أيضاً كان جزء من اليوميات، بالتالي من الطبيعي أنّ الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة أثناء الحرب، لديهم الكثير من قصص “زمطنا ع لحظة” في مرحلة ما بعد الحرب.

وبعيداً عن القصص، يُردد الأهل على مسامعنا، خصوصاً عند انقطاع الكهرباء، مقولات مثل “أيام الحرب كانت احلى رغم القصف والدمار”، “وقت الحرب كنّا مرتاحين اكتر”. وهو ما يؤكّد على انّ أيام السلم التي جاءت بعد توقيع هدنة الطائف اسوأ من تلك التي عاشوها خلال الحرب.

وهذا يعود لسبب أساسي وهو أنّه خلال الحرب، كانت قوى الأمر الواقع (الميليشيات) تنظّم حياة الناس بشكل مباشر إضافة للمساعدات والخدمات التي كانت تمنحها لسكان المناطق الخاضعة لها. أما في فترة السلم، فإنّ دور قوى الأمر الواقع تراجع واكتفت تلك القوى برعاية المحازبين المباشرين لها، أما غالبيّة السكان فقد تركوا لرعاية مؤسسات الدولة التي فشلت في تقديم الحد الأدنى من الخدمات من جهة، وبدأت سياساتها الرأسماليّة تزيد من إفقار الفقراء والمهمشين.

ورغم كل سرديّة “السلم الأهلي” التي حاولت الأطراف اللبنانيّة إرسائها إن كان عبر “ورشة إعمار بيروت”، “عودة المهجرين”، “الإنماء والإعمار”، و”تفكيك الميليشيات وعودة الشرعيّة”، فإنّ هذه السرديّة كانت تختفي كلما انقطعت الكهرباء، لتحل محلها سردية “الحرب الأهليّة”، والحنين لـ”الزمن الجميل”.

الحقبة الضائعة: الفوتبول، كرة السلة والاحتلال السوري

مباراة الأنصار والنجمة على ملعب برج حمود

بعد سنة على كتابتنا المراسلات بيني وبين الصديقة سهى عواد عن حقبة التسعينات الضائعة، نعود اليوم لنكتب بعض من تلك القصص.

هاني

سهى،

لم أكتب لك منذ فترة طويلة. خلال الأسبوع الماضي، راودتني ذكريات عن التسعينات. ولاحظت بانّ العديد من القصص لم نتناولها في المرة الأولى التي كتبنا فيها عن تلك الحقبة. اليوم، أعود وأكتب إليك، بعض من تلك القصص.

لا أعتقد أنّي أخبرتك في السابق بأنّي لعبت كرة القدم منذ أن كنت في الخامسة من عمري. قد تكون هي اللعبة الوحيدة التي أحببتها كثيراً.

في حي وطى المصيطبة، حيث ولدت وعشت حتى بلوغي العشرين عاماً، كان يُمكننا أن نحوّل أي زاوية إلى ملعب صغير لنا. كنّا نلعب في الزقاق الضيّق أمام المنزل، وفي “بورة الرمل” التابعة لنقابة المهندسين خلف الحي، وفي بعض الأيام في ملعب “الانترانيك” الرملي الذي يقع خلف ملعب نادي الصفاء لكرة القدم.

كرة القدم هي لعبة الفقراء لأنّ أنت لست بحاجة سوى إلى كرة قد يبلغ سعرها ثلاثة دولارات، وإذا لم يتوفر ذلك المبلغ، كنّا نخترع كرتنا الخاصة من خلال جمع أوراق في كيس واحد، نلصقه جيّداً، نلعب لمدة نصف ساعة قبل أن تتطاير الأوراق من الكيس ونعود إلى دوامة البحث عن كرة أخرى.

ذلك الحي، يا سهى، الذي لم أذهب إليه في زيارتي الأخيرة لبيروت، ولد فيه العشرات من لاعبي كرة القدم المحترفين الذين لعبوا مع أندية الدرجة الأولى، والعديد منهم كانوا في صفوف المنتخب اللبناني، خصوصاً في فترة التسعينات الضائعة.

هؤلاء الكبار ألهمونا في لعبتنا. كنّا نتمثّل بهم. ولأنّ التراث الكروي موجود في الحي منذ السبعينات، فإنّ أبناء جيلي انخرطوا في أندية رياضيّة، وأصبحوا لاعبين محترفين. عندما أصبحت في الثانية عشرة من عمري، أنخرطت بنادي الصفاء، وبدأت اتدرب معهم في فريق “ّمواليد 85-86” كونه كان من الأندية القليلة التي لديها مدارس للفئات العمريّة الصغيرة.

آنذاك عشت معضلتين. كنت ألعب مع نادي الصفاء، ولكنّي كنت من مشجعي نادي الأنصار، الذي يقع في منطقة طريق الجديدة المجاورة لوطى المصيطبة. هذه المعضلة لم تستمر طويلاً، إذ اعتبرت أنّي يمكنني أن أقوم بالإثنين معاً.

شكّلت كرة القدم محور حياتنا. كنت في يوم عطلتي ألعب الفوتبول طوال النهار، وفي الموسم الدراسي، ألعب الفوتبول بعد الانتهاء من الواجبات المدرسيّة. كان المطر يعني أنّه علينا تأجيل المباريات. أما الصيف فهو عبارة عن مباراة طويلة جداً.

لم أكن ذلك اللاعب الفذ. كنت مجرّد لاعب آخر في الفريق. ألعب في “منطقة الدفاع”. كنت أدافع بشراسة، وأمنع أي مهاجم من تسجيل هدف في مرمى الفريق. وهذا ما منحني “سمعة لا بأس بها” بين رفاق الحي.

في تلك الفترة، أحياء بيروت كانت مفتوحة على بعضها البعض. تحوّل الحي إلى مركز كروي للاحياء البيروتيّة المجاورة. إذ بدأ أبناء الحي بتنظيم دورات كرويّة يُشارك فيها اندية من حي طريق الجديدة، مار الياس، المصيطبة، رمل الظريف، وغيرها من الأحياء.

هذه الدورات كانت تضيف على الحي جو من الحماس، وكانت فرصة لنلتقي بأناس من الأحياء المختلفة. إذ أنّه ليس كرة القدم وحدها جمعتنا، بل الفقر أيضاً.

للأسف، هذه الدورات الكرويّة غابت عشية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط 2005. حلّت مكانها الدورات العسكريّة. أما مباريات الفوتبول، فأصبحت عبارة عن اشتباكات مسلحة وعمليات قنص متقطعة، مازالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور. وقد تستمر لفترة طويلة جداً.

أغلقت الأحياء بجدران نفسيّة فيما بينها، وتحوّل جسر الكولا الذي كان صلة وصل ما بين وطى المصيطبة وطريق الجديدة إلى خط تماس أحمر لا يعبره أحد.

عملية اغتيال رفيق الحريري لم تؤثر فقط على لعبة كرة القدم في الأحياء الشعبيّة، بل حتى على دوري الدرجة الأولى. في التسعينات، كانت هذه اللعبة في اوجها. انتهت الحرب الأهلية، وأصبحت هذه اللعبة، مكان للتنفيس الشعبي وللالتقاء أيضاً.

كنت مشجعاً متطرفاً. كان لديّ العلم الأخضر لفريق الأنصار أحمله معي في كل مباراة أذهب لمشاهدتها في الملعب، حتى المباريات التي كانت تجري في برج حمود، طرابلس، والبقاع. كنت اذهب مع والدي إذ كان حينها يعمل في الاتحاد اللبناني لكرة القدم في أيام نهاية الأسبوع. لم يكن أحد من رفاق الحي يُرافقني إلى المباراة، كونهم كانوا من مشجعي نادي النجمة. وبعد سنوات، أصبحت أذهب معهم إلى مباريات نادي النجمة، ولكنّي بقيت مشجعاً للأنصار.

 المدينة الرياضية بعد تدميرها من قبل الاحتلال الإسرائيلي
المدينة الرياضية بعد تدميرها من قبل الاحتلال الإسرائيلي

تذكرين يا سهى في عام 1997، عندما أعيد افتتاح المدينة الرياضية في بيروت؟

هذه الفترة كانت مفصلية في لبنان. حينها، افتتحت “المدينة الرياضية” التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي أثناء اجتياحه بيروت عام 1982، بحجة وجود مقاتلين فيها. وقد أعيد ترميمها منذ بداية 1993، وافتتحت مع استضافة بيروت لدورة الألعاب العربية في تموز 1997. طبعاً، افتتاح هذا الصرح، شكّل رمزيّة “نجاح الحقبة الحريرية” في إعادة إعمار البلاد.

في تلك الدورة، ذهبت مع أبناء عمي وبعض رفاق الحي لمشاهدة مباراة المنتخب اللبناني في مواجهة المنتخب السوري. حينها حضر حوالي 40 ألف متفرج إلى الملعب. 10 الاف منهم للمنتخب السوري، كنا نعتقد بانّهم عناصر مخابرات وجنود للجيش السوري.

تلك المباريات كانت مناسبة للانتقام السياسي من الاحتلال البعثي للبنان. كنّا نذهب إلى الملعب ليس لمشاهدة المباراة، بل لشتم “سوريا” التي كانت بالنسبة لنا هي مجرّد جيشها ومخابراتها الذين يحتلون البلاد ويذلون ناسها. هكذا أصبح الملعب مكاناً سياسياً متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: الفوتبول، كرة السلة والاحتلال السوري”

الحقبة الضائعة: اكتشاف البحر

شاطىء عين المريسة – بعدستي

سهى

يضحك البحر لأنه حر. أحب أن أعتقد ذلك. أنّ البحر حر ولن نتمكن من تقييده أبدًا. ينظر البحر إلى الشاطئ ويضحك. يضحك كثيرًا وبيتعد. قد يغرق البحر أحيانًا أو يبتل دون علمنا وهنا تكمن حريته وسره. قد يكون البحر أهم عنصر في طفولتي. وأجدني اشتاق إليه مرارًا. فقد قضيت معظم صيفيات طفولتي في جواره وبين أمواجه.

كنا نقصد شاطئ البربارة (بالقرب من عمشيت) مع أبي كل يوم تقريبًا من آخر حزيران إلى نصف أيلول. أبي يمارس هواية الصيد منذ سنوات. وهو ماهر جدًا. لذلك اصطلح أصدقائه تسميته بالبروفسور. ومن كثرة ولعه بالبحر كانت تجاوب أمي عندما يسألها أحدهم عن مهنة زوجها أنه يعمل صيادًا ويعلّم كهواية. علّمني أبي السباحة والقيادة. وقال بهاتين تتحررين.

 علّمني أن أحب البحر. أن آكل ثماره. أن اعتبر نفسي حورية في الماء. أن أكون ماء بين ذراعي البحر. وكان دائمًا يردد أن البحر صحة والسمك مفيد للعقل. كانت رجلا أبي ملوّنتين بحسب صندلاه. سمراوتان مكان انفتاح الصندال وأقل سمارًا مكان انغلاقه. خطوط زيبرا. كوشم بحري يتبعه كظله، كماء يستبدل الخطوة. كنا نأكل من ثمار البحر مرتين أسبوعياً. وما زالت وجبتي المفضلة. وفي السماء بعدما ما نرجع من البحر ونفتح البراد نحدق بفاكهة الصيف الشهية، كنا نأكل بشهية البحر وبجوعه. وبعد الحمام ننظر طويلا إلى الشياك المطل على البحر اضافة إلى سكة قطار مهجورة وكنا سعداء أنا وأخوتي. كنت سعيدة.

كان بامكاننا زيارة البحر في أي وقت ولا سيما شاطئ الحلوة (هكذا كان اسمه)، لم نكن ندفع شيئا لنتلذذ بالماء. كان البحر مجاني، الشمس، والسعادة أيضًا. عرفت منذ مدّة أن هذا الشاطئ وسواه غدا بتعرفة معينة. ما جعل كل الواجهة البحرية لمنطقة جبيل شبه خاصة، لا يمكن دخولها مجانًا. أفكر مرات بالأطفال اليوم، الذين كنت مثلهم في هذه الفترة بسبب أوضاعنا الاقتصادية، لا يملك أهلهم حق استئجار شاليه أو كابين أو حق تعرفة دخول شبه يومية إلى هذه الأماكن وأتحسر على ما يحرمون منه من حرية واستمتاع.

أعرف أن الكثير تغيّر في هذا الوطن منذ التسعينات إلى الآن وإلى الأسوأ. لكنني أنظر مرات إلى البحر ولاسيما في ساعات ثورته وأتأمل من جديد.

 هاني 

كان البحر قريباً، ومازال. قريباً من البيت والروح. ارتبط البحر عندي بأربعة شواطىء بيروتيّة: عين المريسة، الدالية (قرب صخرة الروشة)، الرملة البيضاء، و”الحمامة”، كما يسمّيه أبناء الحي، وهو الشاطىء الصخري الذي يقع قرب اوتيل السامر لاند (Summer Land).

الذكريات البحريّة كثيرة، تراوحت ما بين الخفّة والثقل. فيها من الكثير من الخوف، الفرح، والضحك. أذكر عندما كنت أذهب مع والدي إلى عين المريسة، لنصطاد السمك. عندها لم يكن الشاطىء ملوّثاً كاليوم، ولكنّه كان ملوّث لحد ما. كنت أرمي الخبز في الماء كي يقترب السمك من الشاطىء ويأكلهم، عندها كان والدي يقوم باصطيادهم. كانت من المتعات الصغيرة التي تأخذني إلى عالم بعيد، خصوصاً وأنّي كنت أقضي أغلب الوقت في التحديق في عمق البحر، وأقوم ببناء أفكار غريبة حول البحر.

لاحقاً، أصبحنا نذهب، كل العائلة، والدي ووالدتي وأخي، إلى “الحمامة”، ونصطاد السمك متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: اكتشاف البحر”

الحقبة الضائعة: رحلة الموسيقى

هاني

هي مرحلة الاكتشافات المتتالية. لم أعد أذكر كيف اكتشفت الشيخ إمام، ودخل إلى حياتي ليرسم بعض من ملامح شخصيّتي. ترافق تعرّفي على إمام مع بدء انخراطي بالمظاهرات النقابيّة التي كان يُشارك بها الطلاب من مدرستي. كنّا بضعة طلاب، “نهرب” من المدرسة بالتخفّي حيناً، وتحت أعين المدير أحياناً، الذي كان ينزعج كثيراً من مشاركتنا في المظاهرات.

أكثر ما كان قادراً عليه هو أن يطردنا من المدرسة، ويستدعي أهالينا ليشتكي لهم عن سلوكنا غير المنضبط. أذكر أنّه في إحدى المرّات، استدعى والدي وأخبره عن مشاركتي في المظاهرات. ردّ عليه والدي بأنّ الدستور يكفل الحق لكل مواطن بالتظاهر والتعبير عن الرأي. بعد ذلك الحين، استسلم المدير، وتوقّف عن استدعاء والدي، وأصبح يطردني من المدرسة لمدّة ثلاث أيام كلما ذهبت إلى مظاهرة نقابيّة.

بعدما تعرّفت أكثر على أغاني الشيخ إمام أردت شراء كامل أعماله الموسيقيّة. ذهبت إلى إحدى عربات الكاسيتات التي كانت منتشرة حينها تحت جسر الكولا، وكان يمتلكها متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: رحلة الموسيقى”

الحقبة الضائعة: اكتشاف

سهى

قد “يكون صراع الهويات” أهم ميزة لإنسان القرن الحادي والعشرين. بل الميزة المشتركة الوحيدة التي تطبع شعوب العالم اليوم. هذا الاحساس بالانتماء إلى أكثر من فكرة ومجتمع وثقافة. هذه الحرب الداخلية التي قد تبدأ بذائقة مختلفة عن الرائج في مجتمعك لتتحول بعد فترة إلى عقيدة متكاملة من الاختلاف والاندماج بدرجات متفاوتة مع أقرانك.

ففي ربيع العالم 1994، انتحر كرت كوبين وان كنت وقتها لا أعرفه ولا أعرف موسيقاه وفرقته نيرفانا، فأنني لسوف أتعرف عليها لاحقًا، كحدث طبيعي في مسيرة الاكتشاف الموسيقي التي بدأت عن طريق الصدفة. في هذا الربيع، بدأت هذه  الرحلة، التي لم تنتهي إلى حد الآن.

قبل هذا التاريخ، كانت كاسيتات شانتال غويا، الموسيقى الوحيدة المتواجدة في البيت. ولم تكن الكاسيت سوى عبارة عن عينين ناعستين نائمتين في الدرج تحت التلفزيون.

إلا أن اخترب الراديو. الراديو الذي كانت تبقيه والدتي في المطبخ والذي استمعنا من خلاله إلى نبأ انفجار كنيسة سيدة النجاة بينما كانت الجارة تولول فوق رؤوسنا وتردد “فجّروا الكنيسة. فجّروا الكنيسة!”. ولم تتركنا نسمع أي كنيسة بينما جلست أمي على الكرسي، وأنا بجانبها أقول لها أن أبي ذهب إلى الكنيسة ولم يعد بعد. في النهاية، استوعبنا أن والدي قصد كنيسة أخرى متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: اكتشاف”

الحقبة الضائعة: اللاانتماء

سهى

جدك ترك لك ساعة وراديو بينما لم يترك لي جدي سوى الصدف. صدف يغزو البيت. كان بيته البحري في شكا، الذي حوّله متحفًا، ووقت فراغه، اضافة إلى موهبته عوامل كافية ليصير كاهن للصدف. يعبدها ويبجلها ويحاول مزجها بكل قطعة أثاث. ابتداء من الطاولة حتى المنفضة مرورا بالسرير والتلفون وتعليقة المعاطف كلها ملبسة بالصدف. ولكن هذا لم يشكل  سوى جزءًا بسيطًا من هوسه، أقصد فنه. فحيطان البيت كلها عبارة عن بروتريهات صدفية لأبرز الشخصيات التاريخية، الدينية، الفنية واللبنانية. أتكلم عن حوالي 4000 لوحة مصنوعة  قد تجد متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: اللاانتماء”

الحقبة الضائعة: صيف 1994

من يتذكّر التسعينات؟ هي تلك الحقبة الجميلة نسبيّاً، خصوصاً وأنّ بيروت كانت قد انتقلت من زمن الحرب إلى زمن الهدنة المؤقتة. هي الفترة التي حدث فيها الكثير من التغيّرات، وكانت لها ثقافتها الخاصة، ورغم ذلك بقيت تلك الحقبة في الظل، وذلك يتجلى على صعيد الثقافة والفنون إذ انّها تتناول دائماً الحرب الأهليّة (1975-1990)، ولم تأخذ التسعينات حيّزها من الأدب والفنون، لذا نقوم، انا وصديقتي الكاتبة سهى عوّاد بتناول هذه الفترة على طريقتنا الخاصة من خلال الكتابة عن الاحداث الشخصيّة، الأمكنة، والجو العام الذي كان سائداً حينها.

هذا النص الأوّل من محاولة متواضعة، قد يليه نصوص اخرى إن كانت التعليقات مشجّعة، وقد يكون النص الأخير إذا ما لم نستطع تقديم الجديد.

***

سهى

في صيف عام 1994، راجت أغنية “مين حبيبي أنا” لنوال الزغبي و وائل كفوري، كنت أشاهد الفيديو كليب على التلفزيون بينما تسرح لي أمي شعري بمشطها الأحمر الكبير. لا زالت تملكه على فكرة. كنت واقفة بقميصي الزهري الصيفي، ابنة التاسعة أحاول أن أردد الأغنية. أنهت أمي من تحضير أخي وأختي قبيل زيارتنا التاريخية إلى بيروت. هذه كانت متابعة القراءة “الحقبة الضائعة: صيف 1994”