بعيداً في الوجود


في كاتماندو - بعدستي
في كاتماندو – بعدستي

أحياناً، يتقلّص هذا العالم ليُصبح كقطرة ندى فوق رمال الصحراء. وأحياناً أخرى، يتمدد ليُصبح ثقيل كجبال الهمالايا. ومرّات نادرة يتلألأ الندى فوق قمم الهمالايا، وهذا ما يخطف أنفاس الرهبان الذين يعيشون في ظل المعبد الصغير.

كل يوم، عندما تشرق الشمس عند الصباح، اتطّلع من نافذة الشقة التي أعيش فيها نحو البحيرة التي لا أشعر تجاهها بالكثير. أتطلع إلى اليوم الجديد، وفي قرارة نفسي أعرف بانّ كل ما أتوقعه سيحدث.

أعود إلى المنزل والضوء بدأ بالتسرّب إلى أعماق الأرض وقلوبنا الدافئة. لم يعتريني أي شعور. لم أشعر بالحزن أم الفرح. لم أشعر بالحنين إلى أشخاص أم أماكن. لم أفكّر بعائلتي. لم أفكّر بالماضي ولا حتى بالمستقبل. كنت حاضراً ولم أكن هناك. كنت غائباً وكنت في الغرفة أيضاً.

عدت إلى المنزل، وعرفت في قرارة نفسي بأنّ العالم الذي أمشي تجاهه هو عالم ليس ببعيد وليس بقريب. هو عالم ينتمي في اعماقه إلى هذا العالم الآيل إلى السقوط. وعرفت بأنّي لا أنتمي سوى إلى هذا العالم.

أكثر ما أحبه حول هذا العالم هو أنّه يتغيّر. يتغيّر في ظروف لا نحبها وباتجاه لا نريده. ولكنّ الواقع هو أنّه يتغيّر ولا أحد يُمكنه أن يوقف هذا الأمر. كل ما يُمكننا أن نقوم به هو أنّه علينا أن نتعلّم من القدماء ومن تجاربنا السابقة كيف نتعامل مع هذا العالم. هي ليست بمهمة سهلة، وهذا ما يجعلها مهمة تستحق أن نخوضها.

خارج الشقة، مازالت الشمس تحاول الخروج من كهفها القديم. وأنا ما زلت مأخوذاً بما أنا عليه. مسكون بغواية الفجر وبجحيم متدفق. هذا العالم المليء بالاحتمالات، أريد خوضه بكامل إرادتي وحريّتي.

الخدر لم يُفارق حواسي منذ زمن لم أعد أذكر متى بدأ. أرى العالم دون مساحيق التجميل. يُرخي بظلاله على روحي. الثقل يتمدد في ارجاء روحي للحظات، ثم تأتي موسيقى الريغي وتأخذه بعيداً لترميه في عتمة البحر.

By Tucker Sterling - Source: 500px
By Tucker Sterling – Source: 500px

البحث عن المفارقات هي إحدى رحلاتي الدائمة. البحث عن المفارقات حتى في أكثر المسائل حساسيّة هو متعة لا يعلمها إلاّ الباحثون عن المفارقات، وهذه مفارقة أساسيّة. من الصعب على أي أحد تعليم الآخرين كيفيّة البحث عن المفارقة.

الآن، لديّ إجابة عن أسئلة مرتبطة بالسنوات الخمسة القادمة. ولكن ليس لديّ أدنى فكرة عن اللحظة التي ستأتي بعد كتابة هذه الكلمة. لا أعرف ماذا سيحدث، ولا اكترث كثيراً لهذا الأمر. ولكنّي أعرف جيّداً أنّ الجحيم الذي في داخلي مازال متدفقاً. وهذا يكفيني لهذه اللحظة. شعرت بأنّي لم أمت بعد، وأنا لا أريد أكثر من ذلك. وأعتقد أنّ هذا كثير.

***

أحياناً، أرى خفّة العالم بثقله. وهذه مفارقة اكتشفتها على ضفّة البحر، قرب النار، تحت النجوم. تلك الليلة كانت معبر إلى الضفّة الأخرى من العتمة والضوء على حد سواء. كلّما توغلنا في جانبنا المضيء أكثر، كلّما خطونا خطوة أخرى تجاه عتمتنا. وإيجاد التوازن بينهما يلزمه الكثير من الخفّة، والقليل من الثقل.

***

مع كل يوم ينتهي، أقترب يوم آخر من موتي. هذا ليس تشاؤماً، بل هو انخراط في عمق الوجود وأبعاده المتداخلة.

هذا الموت ليس موتي فقط، بل موت لكل الكائنات الحيّة على الكوكب، من نبات وإنسان. ما نتشاركه فعلاً بين بعضنا البعض ليس الموت بحد ذاته، إذ أنّ الموت ليس سوى محطة، أو معبر لحالة وجوديّة أخرى. بل ما نتشاركه هو ذلك الحيّز الزمني الذي يضعنا جميعاً في فضائه، وكأننا ذرات منشطرة.

وإذا ما كان الاقتراب الشديد من الشمس يعني احتراقنا وموتنا، فهذا يعني أنّ كل يوم يمضي، نقترب قليلاً من الشمس، إلى أن نلامسها بأرواحنا، نحترق ونموت. المفارقة هنا هو أنّ الموت يحمل في جوهره عتمة غريبة، أما الشمس فهي ذات ضوء ساطع وأليف. وبالتالي، يأتي موتنا في لحظة كثيفة زمنيّاً، ثقيلة على الروح، وخفيفة على الجسد.

هكذا، يُصبح الموت الذي يُداهمنا عند الصباح خفيفاً، شهيّاً وعذباً، كالندى المتلألئ على جبال الهمالايا.

***

الخوف الذي نحمله من العتمة هو خوف من الموت أيضاً. العتمة هي ذلك المجهول الذي نخافه للوهلة الأولى، ونحاول تفاديه كي لا نقع في واد سحيق. والجميل أيضاً هو أنّ العتمة تُثير المخيّلة، تستفز الحواس، تستنزف الذاكرة، تغوي الروح لتنغمس في المجهول، وكأنّها تقفز بلا مظلة من الطائرة.

هكذا يتسلل إلى وعيي وحواسي ذلك الشعور الغريب الممتزج بالخوف واللذة، وكأنّي طفل صغير بدأ التعرّف على ما يُحيط به من أناس وأشياء.

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

أضف تعليق