موت الأب والوعي السوري


جندي سوري في بيروت
جندي سوري في بيروت

اليوم الذي مات فيه حافظ الأسد، كان يوم جميل. حينها، كان الموسم الدراسي على مشارف الانتهاء. في ذلك اليوم، الشبان السوريون الذين كانوا يملكون محل بقالة في الحي بكوا بغزارة. لا أعلم ما إذا كان بكائهم جاء في سياق تفاديهم لأي مساءلة حول عدم حزنهم على “الأب القائد” والعقاب الذي قد يلقوه جرّاء ذلك، ام أنّ بكائهم جاء نتيجة “فقدان الأب”، كما يوصّف صديقي روجيه، تعامل السوريين مع موت حافظ الأسد. حينها، انتشرت بين الناس قصة ساخرة تقول بانّ حافظ الأسد “انجلط” لأنّ الجيش الإسرائيلي انسحب من الأراضي اللبنانية، وعرف أنّ الدور جاء على جيشه لينسحب من البلاد التي حكمها على مدى ثلاثة عقود.

 

هذا ما أذكره عن بيروت في ذلك اليوم. أما صديقي الدمشقي فهو يذكر الكثير من التفاصيل. يقول “في ذلك اليوم، كنت في سيارة التاكسي متجهاً إلى سوق الحميديّة. كنت أنظر خارج السيّارة، ولم أكن أفكر بشيء. بالكاد كان صوت الراديو مسموعاً. فجأة، قام السائق برفع الصوت ليسمع جيّداً ما يقوله المذيع. الخبر الذي يُذيعه استثنائياً. هو خبر وفاة “الأب القائد” الدكتاتور حافظ الأسد. جفل السائق وكأنّه فقد شيئاً ثميناً.  لم يُعرف ما عليه أن يقوم به. لم ينبس ببنت شفة. نظر إليّ محاولاً أن يعرف ردة فعلي. بادلته النظرات بشرود وعدم اكتراث. ولكنّي لم أقل شيئاً. بعدها، كسر تلك اللحظة، وسألني ما إذا أريد العودة إلى منزلي. ولكنّي أبديت عدم اهتمام، وكأنّ شيئاً لم يحدث، وكأّنّ طاغية لم يمُت منذ قليل. “لا. أريد الوصول إلى وجهتي”. رمقني باستغراب. لم يُعرف ما عليه أن يقوله لي. الصمت الحرج اكتظّ في السيارة الصغيرة. عندما وصلت إلى السوق، وجدت أنّ المحلات توقفت عن استقبال الزبائن، وبدأت بالإقفال. “شو جايي تعمل هون؟ ارجع ع بيتك”، هذا ما قاله لي صاحب المحل الذي قصدته.”

هذا جزء من قصة أخبرنا إياها أثناء احتسائنا للقهوة في أحد مقاهي مدينة الزجاج والرمل. جميع الجالسون على الطاولة هُم من مناطق مختلفة من سوريا، ما عداي. بعد أن سرد صديقنا قصته يوم وفاة “الأخ الأكبر”، بدأ الآخرون يُشاركون قصصهم عن ذلك اليوم الرائع. كل واحد منهم يتذكر الأحداث بالتفاصيل، حتى الأحاديث، الاماكن التي كانوا فيها، والمشاعر التي عاشوها في ذلك اليوم. هو يوم محفور في ذاكرة الأجيال التي عاشت في ظل نظام الحديد والنار.

هذا اليوم  يتذكره اللبنانيون ايضاً، إذ أنّ ملامح الدكتاتور العجوز كانت قد احتلت شوارع العاصمة منذ هدنة الطائف عام 1989. ذاق اللبنانيون، كالسوريون، القبضة الحديديّة للفاشيّة البعثيّة. حتّى أنّ اللبنانيين سلكوا ذات الطريق التي سلكها السوريين عندما يأتون على ذكر الدكتاتور الأب. كنّا نهمس اسمه، وقبل القيام بذلك، كنّا نتأكد من أنّ لا أحد من الغرباء سيسمعنا.

من الحوادث التي أذكرها، وقبل موت الأسد بفترة وجيزة، كنت وعدد من رفاق الحي نتحدث بمواضيع سياسيّة مختلفة. تطرقنا إلى موضوع الاحتلال البعثي لبيروت. حينها، قلت: “ما الفكرة من وجود الجيش السوري في لبنان؟” “شو عم يعملوا هون؟”.

أذكر تلك الحادثة، لأنّه عندما كنّا نتحادث، إنضم إلينا أحد الشبان السوريين الذي كان يقطن في الحي. بعد انتهاء الحديث، قال لي: “فيك تحكيني ع جنب؟”. حينها، أبرز لي آلة تسجيل صغيرة كانت في جيبه. اسمعني الحديث الذي دار بيننا. وقال لي: “انتبه مع مين بتحكي”. حينها، توقفت عن إبداء رأيي أمام هذا الشخص.

تمثال حافظ الأسد في معرة النعمان السورية
تمثال حافظ الأسد في معرة النعمان السورية

ذلك اليوم، تجذّر في الوعي السوري الحديث وأصبح علامة فارقة في السياق التاريخي لسوريا، أما اليوم الآخر الذي أخذ حيزه أيضاً في الوعي هو يوم خروج المظاهرة الأولى في دمشق ضد النظام البعثي، إذ أنّ الكثير من السوريين يتذكرون أيضاً هذا اليوم، وكيف سمعوا بالمظاهرة، وكل الأفكار التي انتابتهم بعدها.

مع امتداد المظاهرات الشعبيّة لمختلف المدن والقرى السوريّة، ردد المنتفضون والمنتفضات شعار “يلعن روحك يا حافظ”، الذي يحمل دلالة مهمة، فهو رد على شعار النظام “حافظ الأسد، قائدنا إلى الأبد”، إذ أنّ السوريين يقومون بلعن روحه التي أصبحت في الأبديّة، وهي كسر لسلطته التي من المفترض أنّها ستمتد إلى الأبد.

وإذا كان موت حافظ الأسد هو مجرّد يوم في تاريخ سوريا، فإنّ الإنتفاضة التي بدأت لاعنفيّة وتحولت إلى صراع مسلح، بسبب سحق الآلة العسكريّة البعثية للحراك الشعبي، هي قتل يومي للأب وسلطته، وهي خروج عن الطاعة، أما استبدال أحدهم للطاغية البعثي بطاغية إسلامي يرتدي العمامة السوداء فهو ليس سوى استبدال للأب، وتأسيس لمعركة اخرى ستكون طويلة.

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

فكرة واحدة بشأن "موت الأب والوعي السوري"

  1. اذكر سعاده جدي الغامرة عندما علم بموت حافظ الاسد
    كان يردد هلك الاسد هلك الاسد
    وتسأله والدتي: اسد حديقة الحيوان ؟
    ولا يجيب فقط يضحك.

    إعجاب

أضف تعليق