أم كلثوم، جدّي واديت بياف في غرفة واحدة


أم كلثوم تقتحم الألوان

أم كلثوم لم تلتقي اديت بياف يوماً. ورغم ذلك، صوتها مازال ينبعث، بوضوح، من مكنة الصوت. خارج الغرفة، الهواء بارد لحد ما، وقدرته على هزّ عرش حبال الغسيل كبيرة. صنم الباطون الذي بدء العمل به منذ سنة، انتهى تقريباً. باطون بارد، وجاف، يجتاح المكان. وكأنّه يقول بعجرفة، “استطيع أن استبيح كل شيء، كالطغاة”.

***

من أينَ لأم كلثوم هذا النفس. أغنيتها تمتد إلى ساعة تقريباً. يبدو أنّها لم تكن من روّاد الدكّان الذي تملكه المرأة التي لا تبتسم أبداً. لم تدخله، ولم تشتري منه “جيتان”، التبغ الذي يأتي من بلاد اديت باف، وليس بياف.

هنا، لا بد من الاعتراف، أنّ لأم كلثوم نَفَس أطول من أنفاسي المتواضعة، والآيلة إلى الانتهاء في هذه الغرفة الضيّقة. الجدران البيضاء تُرهق الأعصاب. “كأننا في مستشفى المجانين”. هذا ما كان يقوله صديقي عند الحديث عن الحياة في هذه الغرفة.

أحياناً، تراودني فكرة تلوين الجدران، بالبنسفج، الأحمر، والأخضر. المجانين يعشقون الألوان الفجّة. هذا ما لم يُخبرني به جدّي الذي قضى أكثر من نصف عمره في ثورات مسلّحة فاشلة. لن أعتب عليه اليوم. فهو كان يُدخّن “لاكي سترايك”، ونَفَسه أطول من نَفَس أم كلثوم التي مازالت تُغنّي حتى هذه اللحظة، دون أي انقطاع. جدّي رحل في تسعينيّات القرن الماضي، فشلت الثورات المدججة بالأسلحة، وبقيت أم كلثوم، بنظاراتها الجذّابة.

***

لا أحد يُريد أن يستيقظ عند الصباح، ويرى الزرافة تحتلّ صالون منزله. هذه ليست مجرّد أمنية. هي هاجس يسكن قلوب الكثيرين. الأرق ليس أبديّاً، ولكنّه مرض مزمن يُصيب المسكونين بالهواجس الوجوديّة. أذكر، أنّ آخر مرّة طُرح عليّ سؤال وجودي: “why?”. كان جوابي “بوهيميّاً”.

لماذا الأسئلة الصعبة تُطرح في اللحظات الصعبة؟ هذا ليس سؤالاً آخراً. هو مجرّد استفسار من الذين يملكون جواباً.

***

Edit Piaf

هل السؤال الوجودي يتبعه جواب وجودي؟ في الواقع، الأسئلة الوجودية هي اسئلة أبديّة. تتكرّر في كل مكان وزمان. ولكن اجوبتها آنيّة، لحظيّة، تختلف في لحظة ُطرح فيها السؤال الوجودي.

أم كلثوم، مثلاً، لم تسمع موسيقى “الترانس”. ولم تمتلك مدوّنة تنشر عبرها أغانيها، وتتواصل مع جمهورها. هي أتقنت ارتداء النظارات السوداء في الأماكن المغلقة. وعرفت تماماً، أين تنتظر تصفيق الجمهور كي تلتقط أنفاسها للمقطع التالي من “أنتَ عمري”. أحدهم يُقدّر لها هذه القدرة على خوض القرن العشرون، دون أن تمتلك سيّارة رباعيّة الدفع.

***

مهلاً، هل انتبه أحد إلى الزرافة التي تتصرّف منذ أشهر طويلة على أنّها نعامة؟ كاتب هذه السطور، لم يعُد يُعرف الفرق بينهما. هل نحن أمام نظريّة تطوّر جديدة؟ من سيادة على الغابة، إلى زرافة، ثم نعامة. ما التالي: ديناصور؟ هذه حتميّة، وليست أمنية، كما يُحب البعض أن يصفها. وهي طبعاً، ليست مجرّد سؤال وجودي، رغم “وجوديّة” المشهد.

***

أم كلثوم لا تُحب المفرقعات الناريّة، ولا حتّى الأصبع الأوحد. لم نكن نعرف إن كانت تحتسي الجاك دانيالز، ولا إن كانت تزرع الأقحوان على شرفة منزلها.

أحياناً، كانت رغبة الهروب تتملّكها. الهروب إلى “اللامكان”، حيث كان الجميع يحتسي الفودكا. إحداهنّ تتمنّى أن يكون الفودكا هو الشراب الرسمي في الجحيم، ولكن هل سيُرسل الله بعض من الروس إلى هناك؟

إن كان الله غير غاضباً من الفتاة وأم كلثوم هذا يعني أنّ أبناء الجحيم سينعمون بالفودكا الجيّدة لفترة طويلة. وهذا فضل يضيف بعض من الخشوع على الرواية.

***

المسافة طويلة بين أم كلثوم وبراغ الشرقيّة. كالمسافة بين الخنصر والابهام. هذه ليست نظريّة جديدة عن الفيزياء. ولا حتّى تجاهل للمسافات. كل ما هنالك، أنّ المخيلة أحياناً تستولي على كل شيء، بعيداً عن قسوة الوقت!

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

أضف تعليق