محطة


كان يُريد أن يكتب عن يوميّاته في القطار. “فكرة جيّدة”، نطق هامساً لنفسه. هي طريقة يوميّة للتدرّب على الكتابة القصصيّة. هكذا فهم من ذاته، عندما بدأ يستقلّ القطار يوميّاً، ذهاباً واياباً إلى مكان عمله. وفي عطلات نهاية الاسبوع.

بدت الفكرة جذابة له. ولكن ما هي تلك اليوميّات؟ إلى ماذا يتعرّض في محطات القطار؟ وفي داخله؟

source:flickr- by Aaron CHOU

في الواقع، هو ليس إلاّ كائناً من النادر أن يلحظه أحد. يصعد إلى القطار المكتظ والبارد. كغيره. طبعاً، لن يلتفت إليه أحد. من يلتفت إلى شخص ملامحه تشبه لحد التماهي ملامح جميع قاطني هذه المدينة؟ ولماذا أيضاً قد يلتفت أي أحد لأحد آخر ملامحه تتشابه معه؟ الناس تلحظ الاختلاف. هنا، الجميع متساوون في التشابه. وهكذا، لا أحد يلتفت إلى أحد.

من النادر أن يتحدّث أي أحد إلى أحد آخر. الجميع منهمكون. يثرثرون. ثرثرة عبثيّة، ولانهائيّة يخوضها كل فرد على حدة. إذن، ماذا سيكتب؟

لا شيء يُميّز يوم عن آخر. الأيّام تتكرر. وكذلك كل شيء آخر: الصعود، النزول، الاكتظاظ، الترقّب، تفرّس الوجوه، تأمّل أصابع الأرجل، وثرثرته الداخليّة. فعليّاً، لا شيء استثنائي يحدث كي يتناوله في قصّة، ولو قصيرة، أو قصيرة جداً. كل ما يجري هو التكرر اللامتناهي لمشهد يستطيع أن يُمثّل فيه جميع الأدوار، رغم أنّه لا يحترف كثيراً المونولوغ أو المسرح.

كل ما كان يفعله في ماضيه، الذي يكاد ينساه في هذه اللحظة، أنّه كان يُحب المسرح، وكثيراً ما كان يرتاده مع الفتاة التي كان يُحبّها. وأحياناً، يُمارس تلك المتعة وحده، رغم أنّه كان يُفكّر بالشخص الذي يُمكن أن يلتقيه ليتحدث معه عن هذه المسرحية، ويُعبّر عن رأيه بها. وإذا ما وجد أحد يحدّثه عنها، كل ما كان يفعله هو أن يحتفظ برأيه، لوقت لاحق، ليبديه أثناء محادثة عن المسرح تدور أمامه.

الآن، طرأت على رأسه هذه الفكرة. ما يجري في محطة القطار هو عرض مسرحي مستمر، ومجاني. الشرطي الذي يحرث (وليس يحرس) المحطة يُجيد دوره بالفعل. نبرته الصامتة جيّدة. يبدو أنّه تعلّمها من مشاهداته الكثيرة لأفلام هوليود المحترفة والرخيصة. يتمشّى بين المنتظرين كخيّال بلا حصان أبيض ذو قرن. لطالما أحبّ هذه الفكرة. أن يكون فارساً، وشرطيّاً. وها هو الآن، يلبس البزة الزيتيّة، يُعلن عن وجوده، يتبختر أمام منتظري القطار، بملامح تنمّ عن سلطة، وهدوء ليس بالضرورة عميقاً.

وهناك، على بعد مترين أو ثلاثة، يرقد بائع التذاكر في حجرته الصغيرة. بابتسامة نادرة، وغير بلهاء. هو مسرور ربّما. هكذا يُريد أن يبدو للعابرين. أو بالفعل هو مسرور. لما لا؟ يجلس حوالي ثماني ساعات على كرسيه، في حجرته المبرّدة. ما عليه سوى أن يسأل الركاب مسار اتجاههم، يعطيهم البطاقة، ويقبض ثمنها. طبعاً، ثمن التذاكر لا يذهب إلى جيوبه الفارغة. الراتب الذي يتقاضاه كل أول شهر لا بأس به. يجعله على قيد الحياة. لا يطلب أكثر من ذلك. أن يبقى على قيد الحياة، ويشتري هاتف جديد يتواصل من خلاله مع أصدقائه وأهله الذين تركهم في مدينة اخرى، في مكان بعيد نسبيّاً عن هذه المدينة. في كل الأحوال، هو لا ينوي الزواج، على الأقل في المدى المنظور، رغم إصرار عائلته، وتذكيره الدائم في هذا الموضوع. لا تجذبه كثيراً فكرة أن يستيقظ كل يوم صباحاً، ويرى انثى تملأ صباحه بابتسامة خفيفة. ابتسامات الصبايا العابرات يوميّاً كانت تكفيه. هو ليس متطلباً كثيراً. مقتنع بما يدور حوله، وفي رأسه.

ولكن هذا لا يعني أنّ الليل لا يؤثّر به كثيراً. عندما يخلد إلى فرشته، تراوده فكرة الزواج. أن تشاركه امرأة فراشه الذي يتّسع لشخصين نحيلين. الوحدة كالعزلة. هذا الشعور كثيراً ما كان يُنفّره. هو يعلم أنّ الوحدة والعزلة حالتان مختلفتان. ورغم ذلك، فهو يُعاني من الأثنين معاً. وقبل أن يُقرر إذا ما كان يُريد حقاً الزواج أم لا، كان النوم يُداهمه، وهو بدوره يستسلم. غداً، صباحاً، سيكتفي من ابتسامات العابرات.

Source: Flickr- By SpunkyMonQy

ويحدث أحياناً، أن يتذكّر الفتاة التي واعدها لمدّة سنة. كان يبيعها يوميّاً تذكرة للقطار. إلى أن تجرّأ مرّة، وسألها عن اسمها. وهكذا، أصبح كل يوم يُعرف عنها شيئاً إضافيّاً. وحدث يوماً أنّ دعاها إلى نزهة صغيرة إلى كورنيش المارينا. هناك، تحت أضواء الرصيف والأبنية العالية كانت رغبته بأن يقبّلها غير محدودة. كان يُريد فقط أن يُقبّلها. راودتها هذه الرغبة أيضاً. ورغم أنّ التقبيل ممنوع في مدينة البلاستيك، قبّلها خلسة، عن عيون الشرطة. هكذا مارس فعل التمرّد لأوّل مرّة منذ وصوله إلى هذا المكان. لمعت عيونهم، وكأنّها ضوء آخر يُضيء كورنيش المارينا. لم يلحظهما أحد. ولكنّ شعورهم بالانتصار تمادى في شرايينهم. في ذلك الليل، لم ينم إلا بعد تقلّبه لساعات طويلة في فراشه. شفتاها سحرته، وكأنّها أميرة حوّلته إلى ضفدع صغير، أو سلحفاة. لا فرق، طالما الأثنان يسبحان. هو كان كذلك. يسبح بتلك الثانية التي كانت أطول ثانية في حياته. لوهلة، شعر وكأنّه علق في تلك اللحظة إلى الأبد. لم يُصبه الذعر الذي عادة ما يُصيب الذين يعلقون في مكان ما. تمنى لو أنّه يعلق فعلاً هناك. ولكن سرعان ما باغته النوم، وأخذه إلى واقعه، إلى الحلم.

لم يعد يذكر السبب الذي أدّى إلى انفصاله عنها. اليوم، تبدو وكأنّ علاقته هذه كانت في الماضي السحيق، رغم أنّه لم يمضي عام على هذا الانفصال الذي أصابه في الأشهر الأولى بشعور كان يُراوده للمرّة الأولى. لاحقاً، استوعب الصدمة، واقتنع بأنّه إذا كان يُحبّها، هذا لا يعني بأنّه يجب أن يكون على علاقة معها. تلك القناعة عندما ترسّخت في دواخله، عرف أنّه فَقَدَ شيء ما في داخله. فَقَدَ حرارة ما كان يكتنزها منذ تربّى في تلك الضواحي البعيدة من هنا. عندما ترك بيته الأول، فقد حرارة ما. وعندما انفصل عنها، فقد أيضاً حرارة اخرى. عندها ذُعر مما أصابه. لم يكن يُريد للبرد أن يتسلل أكثر إلى أحشائه. لم يكن يُريد أن يُصبح مجرّد إنساناً بارداً. هكذا، توقّف عن الانزلاق إلى مغامرات تفقده الحرارة. وبدأ الاكتفاء بالابتسامات اللامتناهيّة يوميّاً. ابتسامات عابرة، سريعة، كالقطار الذي يبيع تذاكره، تملأ بعض من الحرارة، رغم أنّ هذه الابتسامات التي كان يتلقّاها مليئة بالبلاهة والبلادة.

مرّ دقيقة، وهو واقف أمام شباك التذاكر. سأله الشاب الذي يبيع التذاكر. “لم تقل لي إلى أي جهّة انتَ ذاهب”. عندها عرف أنّه غرق اكثر من اللازم في مسرحيّته. “أريد بطاقة إلى كورنيش المارينا”. قالها مبتسماً، ابتسامة باردة. نظر إليه الشاب، وبادره بابتسامة أكثر بروداً. كانا يبدوان وكأنّهما دميتان من البلاستيك. هكذا، عبر إلى كورنيش المارينا ليتنفّس بعض من الرطوبة الوقحة. أما بائع التذاكر بقي في حجرته منتظراً انتهاء النصف الساعة الأخيرة من دوام عمله.

على بعد مترين أو ثلاثة، كان الشرطي مازال مزهوّاً ببزّته الزيتيّة، وكأنّه طفل فرحاً بثياب العيد!

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

17 رأي حول “محطة”

  1. فعلاً قصة تحمل في طياتها الكثير من المعاني الجميلة ..

    تسلم ايدك على هذي القصة ..

    انتقائك للصور رائع جداً ..

    إعجاب

أضف تعليق