الطاغية والمدينة: علاقة استحواذ وتمرّد

لماذا الدكتاتور يعشق المدينة؟

غريبة هي العلاقة بين المدينة والطاغية. لا يُذكر طاغية إلاّ وتليه اسم مدينة ما سيطر عليها، دمّرها، أو حاول تدميرها، والاستيلاء عليها. هكذا، يترافق اسم هولاكو مع بغداد. نيرون مع روما. هتلر مع ستالينغراد، إضافة إلى الطغاة المحليين الموزعين في العالم، هنا وهناك.

استطاعت المدن أن تجذب الطغاة، خصوصاً وانّها شكّلت فضاءً عاماً للجماعات الإنسانيّة. هكذا، ليستحوذ الطغاة على كل شيء، ما عليهم سوى أن يُخضعوا الفضاء العام لسيطرتهم، اما الباقي فهي تفاصيل يلزمها بعض الوقت.

لذا، ليس غريباً، أو عبثاً أن يعتمد الطغاة الأنظمة المركزيّة في حكمهم، حيث تتركّز السلطات في مدينة واحدة (عادة ما تكون العاصمة). هكذا، ينحصر كل شيء في مدينة واحدة، خاضعة للسيطرة التامة، أما باقي البلاد فتصبح مجرّد أراضي وأناس تعيش على هامش الحياة العامّة.

وليُحكم الدكتاتور سيطرته على الفضاء العام، وبالتالي المدينة، يبدأ أوّلاً، بإلغاء ملامح المكان، ورسم ملامح اخرى، تشبه لحد بعيد ملامحه. هكذا، توضع صورة الدكتاتور التي يبدو فيها كأيقونة لا تُقهر في جميع الساحات العامة للمدينة، والشوارع الكبرى، ليُتاح لجميع قاطني المدينة أن يُشاهدوا “الأخ الأكبر”، الذي يُراقبهم في النهار، ويسهر عليهم في الليل. ليغدو المشهد مألوفاً للجميع، مع مرور السنين. وأيضاً، لا يغيب عن بال الدكتاتور استخدام الجدران لأقواله، وصوره، إذ تمتلأ جدران المدينة بأعمال وجداريّات تؤرّخ أقواله، أفكاره، وعبارات تأييديّة له. هكذا، يؤبّد قبضته على السلطة. وهكذا، يمحي ملامح الفضاء العام الذي عادة ما يتألف من أفكار، انفعالات، وخواطر سكان المدينة. لتُصبح المدينة فضاءً خاصاً به، ولكنّه فضاء يخضع له الجميع. هكذا، يُعيد تشكيل المدينة، على قياس ملامح وجهه.

ودائماً ما يتذكّر الدكتاتور ان يُعبّد الطريق المؤدية  من وإلى المطار بصور عملاقة له، ليزرع ملامحه أيضاً في ذهن زوّار المدينة (والبلاد). وليؤكّد أنّه الآمر الناهي في البلاد، حتّى لمن قد لا يهمّه الأمر.

عندما يختفي الفضاء العام تحت “هيبة” الدكتاتور، يختفي صوت المدينة، وصورتها. من هنا، اتت تسميات “السعودية”، “عراق صدام حسين”، “مصر جمال عبد الناصر”، “سوريا الاسد”، “كوريا كيم جونغ ايل”، “المانيا الهتلريّة”، “إيران خميني”، وغيرها..

على سبيل المثال، هكذا، استطاع الطاغية معمّر القذافي الذي قتل على أيدي ثوّار ليبيا أن يقنع الجميع، دون استثناء، وعلى مدى أربعة عقود انّ ليبيا هي مجرّد صحراء بلا شعب. لوهلة، كنّا نعتقد انّ الشعب الليبي غير موجود، وإن وجد فهو شعب صامت. وقد اثبتت الثورة العكس. في ليبيا، شعب يصرخ للحريّة. وقد ملا صراخه الأرض. النموذج الليبي يشبه لحد بعيد النموذج الكوري الشمالي. من التقى يوماً بمواطن من كوريا الشماليّة؟

 كل ما نعرفه عن الإنسان الكوري الشمالي (الذي لم نلتقيه بعد) انّ ملامحه متقاربة من ملامح كيم جونغ ايل (ما يحضر في ذهننا). وعلى الأرجح، لدى غالبيّتنا متابعة القراءة “الطاغية والمدينة: علاقة استحواذ وتمرّد”