الأماكن وتناقضاتها


image (1).jpg
على ضفة نهر ميكونغ

ذلك الصباح كان كأي صباح آخر، ولكن ليس تحديداً كأي صباح آخر.

النهر الذي يفصل التلال عن بعضها يتدفق ببطىء يشبه بطء الوقت هنا. وهذا ما أردت أن أشعر به منذ سنوات طويلة. المطر الذي انهمر لساعات عند الفجر لم يجف بعد. أما الشمس فهي مختفية وراء كتل من الغيوم.

استيقظت على صوت تراتيل الرهبان القادم من التلة المقابلة على الضفة الاخرى من نهر ميكونغ. من بلاد اخرى، من لاوس.

***

هذا الصباح أوحى لي بظهيرة قضيناها أنا وصديقي طوني على ضفة نهر الدانوب في مدينة فيدين البلغارية. كل شيء يتشابه. النهر المتدفق ببطىء. كتل الغيوم التي حجبت كل شيء. المطر الذي لم يتوقف عن التساقط طيلة الظهيرة.

Screen Shot 2017-05-22 at 8.30.06 AM.png
على ضفة نهر الدانوب

رغم ذلك، يبدو المشهدان بأنهما ينتميان إلى عالمين متناقضين.

المشهد في فيدين، أوحى لي بالعبثية وعدمية هذا الوجود. قلت لصديقي حينها بأن بقائنا هنا لمدة أطول من يوم واحد قد يدفعني للتفكير جدياً بوضع حد لحياتي. لا أعرف لما راودتني هذه الفكرة. لاحقاً، قرأت عن المدينة أكثر. وجدت بأن أحد روائييها انتحر في أحد الأيام.

ولكن هنا، حيث أشرب قهوتي، المشهد أوحى لي بالكثير. استوحيت منه الاحتمالات اللانهائية التي يمكن أن تخبأها لنا الحياة في أماكن غير متوقعة. أردت أن أحيا أكثر. أن أرتحل بعيداً في هذا العالم الذي بدا أكثر الفة في هذا الصباح المقدس بتراتيل الرهبان القادمة من خلف التلال.

احتجت لهذا الصباح أكثر من أي شيء آخر. وفي الوقت عينه، اشتقت لأيام خلت كانت روحي تنبض أكثر بالحياة والحرارة، ولكن هذا ليس بالأمر السيء. الحياة تمضي، ونمضي معها مع كل خيباتنا وما تبقى من أحلام لم تطحنها الحضارة بعد.

***

لم أحب السرعة يوماً. يجذبني البطء منذ زمن بعيد. كما وأني لا احب الاستعجال ولا الناس المستعجلين في الحياة. اليوم، اكتشفت أن لبطء الوقت أنواع مختلفة. هو ليس بطء واحد: بطء يوحي بالموت وآخر بالحياة.

البطء على ضفة نهر الدانوب لم يوحي سوى بالعدمية وعدم جدوى كل شيء. بينما البطء هنا فهو حياة اخرى.

في البطء نكتشف عوالم مختلفة: عوالم داخلنا واخرى خارجنا. نستطيع التمتع أكثر بكل شيء حولنا: النهر، البرية، الأشجار، ملامح الناس، والكلاب المشردة.

***

هذه طبيعة الأماكن. بعضها تدفعك للموت بسلام، واخرى تجعلك تبحث عن العيش بسلام. أماكن لا نرى من خلالها سوى احتمال واحد، وطريقة عيش واحدة، واخرى تمنحنا أفقاً مليء بالخيارات لهذه الحياة الواحدة.

بعض الأماكن تأسر أرواحنا، وتدفعنا إلى هاوية سحيقة ومظلمة تؤرق الجسد وتستنزف طاقته، وأماكن اخرى تأسر قلبك وحواسك. تريد الانتماء إليها، اكتشافها والذهاب بعيداً في أعماقها.

في السنوات الأخيرة، عشت في أماكن لم تلهمني سوى بشيء واحد وهو البحث عن المخرج منها. لم استطع الإنتماء إليها ولم أجد بها السلام الذي نحن في رحلة بحث دائمة عنه.

***

مرة أخرى، أجد نفسي في مكان مليء بالغرابة. واكثر، اجد نفسي منتمياً إلى هذا العالم المفتوح على الاحتمالات التي لا نهاية لها. قد تكون غرابة الأمكنة من غرابتنا، وأحياناً العكس، ولكن هذا أمر لا يهم.

غرابة هذا المكان تسحر حواسي، وهذا ما لم أختبره منذ سنوات طويلة. يبدو أننا بحاجة إلى أمكنة جديدة لنشعر ببعض من الحياة في عروقنا.

الأماكن التي تستهلكنا تشعرنا بالضيق وبأن الأفق ليس سوى حائط نرتطم به كل يوم.. وربما كل ساعة. تلك الأماكن التي نبدأ بكرهها مع الزمن أو بالتمني أن نبتعد عنها يوماً ما، كي لا تفرغنا من الحياة، كي لا تستنزف منا النار لم تنطفىء بعد.

***

دائماً ما أذكر رواية الكبير كونديرا “الحياة في مكان آخر”. هذه العبارة قد تحمل الكثير من التأويلات. وبقدر ما تحمل من عبث “كونديري”، فهي تحمل أيضاً رغبة الارتحال والبحث عن الحياة في مكان آخر إذذا كان واقعنا لا يحمل الحياة التي نريد. وهي تؤكد أيضاً أن الحياة ممكنة خارج الأطر التي تحكم حياتنا منذ قرون بعيدة. ربما علينا أن نصنع هذه الحياة ونخلق عالمنا الذي نعتبر أن الحياة فيه وليس في مكان آخر.

هكذا هي الأماكن، بعضها تحولنا إلى كائنات باردة أو بالأحرى إلى زومبيز فاقدين للحواس، واخرى تملأنا بالدفء وتعيد بعض من الروح إلى الروح.

***

اليوم، كأي يوم آخر من الأيام الأخيرة التي أمضيها في هذا المكان، استيقظ، أبحث عن مكان لشرب قهوتي مع سيجارة الصباح. أمرّ من أمام المعابد. تراتيل الرهبان تملأ المكان. تتراصف المعابد على طول الطريق، وهذا ما يجعل من المكان أكثر ألفة.

هنا لا أعرف أحداً، ولا أحد يعرفني، ولكن شعور غريب ينتابني بأنني ألتقيت بالكثيرين منهم ليلة أمس، أم ربما هذا الصباح.. وربما في حياة بعيدة. وهذا أمر لا يهم.

كل ما يهم، هو أنني أشعر ببعض من الحياة هنا. وهذا يكفيني.

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

3 رأي حول “الأماكن وتناقضاتها”

أضف تعليق