معهد الفنون الجميلة: نحو الالتزام الدينيّ.. تابع سَيرك


هاني نعيم

انتقل معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، الذي تأسس في منتصف ستينيّات القرن الماضي، منذ حوالى ثلاث سنوات، من مبناه القديم في رأس بيروت، الروشة، إلى مجمّع الحدث الجديد، في ضاحية بيروت الجنوبيّة.
هذا الانتقال لم يكن مجانيّاً. من ناحية، حصل الطلاب على مبنى جديد، في مجمع واسع يحتوي على مساحات خضراء، ممرّات جميلة، ومساكن طلابيّة وكافيتريا. واستحدث اختصاصان جديدان هما: السينما والتصميم الغرافيكي graphic design إلى الاختصاصات الأربعة الأخرى: الرسم والتصوير، المسرح، الهندسة المعماريّة، والهندسة الداخليّة.
ومن ناحية أخرى، ظلّت أمور كثيرة على حالها، وأخرى صارت أكثر سوءاً، حيث بدأ طلاب المعهد دفع فواتير «النقلة»، ومنها تغيّر «الجو»، واستمرار تقلّص مساحة الحريّة التي كانوا يتمتّعون بها في السابق.
التضييق على معهد الفنون لم يبدأ مع انتقال المبنى إلى الحدث، بل يعود لحقبة ما بعد الحرب الأهلية، أي مع انحسار نشاط وتأثير الأحزاب والتيّارات اليساريّة والعلمانيّة، التي كانت «الفنون» تشكّل أبرز ساحات نضالها وإبداعاتها، ومع مد الأحزاب الطائفيّة والدينيّة التي تغلغلت في تفاصيل الحركة الاجتماعية ـ السياسية للبلاد.
في البدء، بعد الحرب الأهلية، ألغيت مادّة «الموديل العاري» التي تُدرّس في قسم الرسم والتصوير، «وذلك تحت تأثير الضغط الاجتماعي على الإدارة، من المجتمع الأهلي، الأحزاب السياسية، والمراجع الدينيّة، لأسباب دينيّة بحتة. لذا تم استبداله بموديل غير عار»، يشرح عادل قديح، أحد أستاذة القسم.
هذا العام، طالب أحد الأساتذة باستقدام إحدى العارضات لرسمها عارية، «هذا الطلب عارضه الطلاب، حتّى أن الإدارة لم تقم بمناقشة الأمر، بل رفض من الأساس»، على حد تعبير الطالبة في السنة الأولى، في قسم الرسم والتصوير زينة شقّور.مش
وتشرح زينة عن أهميّة «الموديل العاري» كون كل العاملين في هذا الحقل سيواجهون رسماً من هذا النوع لاحقاً. لذا، تعلن زينة أنها ستنتقل العام المقبل إلى الفرع الثاني، «هناك، لا توجد ضوابط دينيّة متزمتة، والموديل العاري لم يُمنع فيها بعد.. مساحة الحريّة هناك أوسع قليلاً!».
ويروي طلاب آخرون عن «محاولة أحد الأحزاب الدينيّة، منذ سنتين، منع «حفلة التعارف السنويّة»، التي تعتبر من تراث المعهد. وهذا المنع يأتي على خلفيّة أن «عادات المنطقة المجاورة تتنافى مع هذه الحفلة الغنائية»، في إشارة إلى الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
هذا العام، كان صوت «الدينيين» أكثر ارتفاعاً وحدّة عن العام الماضي، «وهو آخذ بالتصاعد، حتى يصلوا إلى منعها نهائيّاً»، على حد تعبير أحد الطلاب القدامى في المعهد. ويذكر هذا الطالب بعض ممارسات «المتحزّبين الدينيين» في كليّة العلوم منذ أعوام، عندما أقدموا على تكسير لوحات تحمل «أجساداً عارية» لطلاب من الفنون، كونها «تتعارض مع الإسلام، الذي يعتبر شريعة الله».
ولا يتوقف «شرع الله» والناطقون باسمه، عند التدخّل في الحفلات واللوحات العارية، فرقصة الدبكة أيضاً مرفوضة هنا. إذ عمد بعض «المتدينين» إلى إيقاف نشاط تضامني مع فلسطين، بعد أن قام طفل وطفلة بشبك أيديهما لأداء «رقصة الدبكة الفلسطينية». «اعتبروا هذا الفعل غير أخلاقي ومدنّس للقضيّة»، على حد تعبير هذا الطالب القديم.
ويسرح بمخيّلته أكثر: «هل نشهد لاحقاً إلغاء قسم المسرح مثلاً كونه يؤدّي إلى احتكاك بين الشباب والصبايا؟». ويجيب بنفسه: «ما دام الطلاب غائبين عن الوعي، وبعيدين عن الهمّ المطلبيّ والنقابي، ومن دون أن يتحرّكوا لرفض هذا المد الديني والأصولي، فإن هامش الحريّة سيتضاءل أكثر فأكثر».
«هكذا نفهم الحريّة»
يستخدم بعض الطلاب مصطلحات مثل «الحزب الديني»، «الأصوليون» أو «المد الطائفي» كي لا يقوموا بتسمية الأمور بأسمائها، ما قد يدخلهم في «مشاكل نحن بغنى عنها»، على حد تعبيرهم. ولكن، في الواقع هم لا يتحدّثون إلاّ عن حزب الله، الذي تتوسّع قاعدته الطلابيّة في المعهد والمجمّع كل عام.
وإذا كانت شريحة من الطلاب تعتبر أن الانتقال إلى الحدث كان مكلفاً من ناحية هامش الحريّات، فإنّ غيرهم يعتبرها «خطوة إيجابية»، مثل حزب الله.
يشرح مسؤول التعبئة التربويّة في الحزب، طالب السنة الرابعة في الهندسة المعمارية، محمد مهدي، الأسباب الإيجابيّة للنقلة، ومنها أنها «شجعت شريحة واسعة من الملتزمين دينيّاً على الانتساب للفنون، بعد أن كانت تعتبر المعهد غير مناسب لها». ومن ناحية أخرى، «الآن، عاد المعهد إلى حمل قيم المجتمع اللبناني الأصيلة». ويعطي مثالاً على ذلك: «سابقاً، في قسم المسرح كانت توجد ممارسات غير أخلاقيّة وفلتان أخلاقي. أما الآن، فهي غير موجودة كالسابق». هنا يتوقّف محمد ليوضح بأن «هذه الممارسات يرفضها المجتمع ككل، وليس نحن فقط».
وفي ما يتعلّق بحفلة التعارف السنويّة، لا يخفي محمد أنه «من الداعين لتغيير مفهومها»، على حد تعبيره. فهو يرفضها كونها حفلة غناء ورقص مختلط «زايد عن حدوده»، يمسّ بالقيم الأخلاقيّة. وأيضاً، يتشعّب محمد قليلاً ليشرح فكرته «نحن لا نرفض الاختلاط مطلقاً. ولكن توجد أنواع للاختلاط، ونحن نرفض النوع الذي يؤدي إلى فساد أخلاقي ويقود لانحلال اجتماعي!».
ويقول إن حزب الله اقترح برنامج تعارف يناسب جميع الفئات، «خصوصاً الملتزمين دينياً الذين يجدون أنفسهم غير معنيّين بالغناء والرقص».
يتحدث محمد، بصراحة، عن رفضه للـ«موديل العاري»، كونه «محرّما، وهو يتعارض مع دينه ومبادئه».
أما عن الواقع المتغيّر في المعهد، فيعطي محمد مثالاً: «في صف الرسم 17 طالبة، 10 طالبات منهن محجّبات. ماذا يعني ذلك؟». يسأل ويجيب: «هذا واقع مختلف. قد يزعج البعض، وهذه مشكلتهم. نحن ننظر لحريّتنا من خلال التزامنا الديني».
وليدعّم فكرته أكثر، يأخذك إلى تركيا. «هذه الدولة العلمانيّة تتعرّض لتحوّلات بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. إنها تعود إلى الإسلام. هذا واقع يجب التأقلم معه مثلاً».

.. ومشاكل أخرى
ما إن يُسأل أي طالب في معهد الفنون عن مشاكله، حتى يسرد لائحة طويلة، كأي طالب يدرس في إحدى كليّات الجامعة اللبنانيّة. وأول ما يخطر ببال طالب الفنون من مشاكل هو نظام الـLMD، الذي يعتبر كابوسه اليومي، وقد بدأ الطلاب منذ فترة، بسلسلة تحرّكات احتجاجيّة ضد بعض الإجراءات التي اتّخذتها الإدارة ذات صلة بالموضوع.
مشاكل نظام الـLMD، هي جزء من سلسلة مشاكل لا تنتهي. وهي «سلسلة» كونها جميعها في ذات الأهميّة والأولويّة. فغياب التجهيزات التي تساعدهم في التمارين التطبيقيّة، هي إحدى تلك المشاكل التي يشتكي منها الطلاب.
وعلى سبيل التعداد، تغيب «خشبة المسرح في قسم «المسرح»، وأيضاً تغيب القدرة على التحكّم بالإضاءة والصوت أثناء أداء التمارين»، على حد تعبير طالب السنة الثالثة في المسرح محمد نجمة.
يضيف محمد بأنّه «حتى في المكان الذي نتمرّن فيه، لا يمكننا دق مسمار واحد في الحائط، ولا إضافة تجهيزات أخرى خاصة بالسينوغرافيا، وذلك لأن الشركة الملزّمة في المجمع تمنع ذلك».
ويسلّط محمد الضوء على «عتق المناهج الدراسيّة» كما يصفه. «توقّفت المناهج عند زمن معيّن، وكل ما له علاقة بالمسرح المعاصر يغيب عنّا أكاديميّاً».
أما عضو مجلس فرع الطلاب، الطالب في السنة الثانية في قسم السينما حمزة شمص، فيشير إلى أن الإدارة اشترت بعض التجهيزات الجديدة، ورغم ذلك، يعاني القسم من مشاكل، يروي حمزة أمثلة عنها: «بعض الأساتذة يأتي مرّة واحدة كل ثلاثة أسابيع إلى الصف. مواد أخرى لا اساتذة لها، وبالتالي تم تأجيلها مثل «مادة الإضاءة».
هذا على صعيد التجهيزات «التطبيقيّة»، أما «تجهيزات الحد الأدنى» من طاولات وكراسي، فهي «كارثة»، على حد تعبير عدد من الطلاب. فالعديد من الصفوف تخلو منها، ما يؤدي بالطلاب إلى نقلها من صف إلى آخر عندما يحين وقت دوامهم، أو وضع قفل خاص بالطاولة والكرسي.. لمنع الآخرين من استخدامها.

الأربعاء 16 كانون الاول 2009

جريدة السفير

الكاتب: Hanibaael

Writer. Content Creator & Fire Performer

6 رأي حول “معهد الفنون الجميلة: نحو الالتزام الدينيّ.. تابع سَيرك”

  1. يا إلهي كم هو الفارق محزن للغاية ..
    هناك الدينيون يمنعون موديل عارية ..

    وهنا يمنعون أغنيةً من الخروج

    كل هذا باسم الدين ..

    ولست أدري أين الدين منهما ؟؟

    إعجاب

  2. انو بكرا الرسم بسير عبارة عن رسم للخط الكوفي, و المسرح بس لتمثيل موقعة عاشوراء, و الفن المعماري بسير فن بناء الجوامع, و ساعتها ما بعود في شي بشع,
    انّو في أحلى من أنو الواحد يتفرّج عا معرض لوحات بالخط الكوفي, و بالويك أند يضهر هو و الأصدقاء يحضروا مسرحيّة عاشوراء, و يتمتّع بمشاهدة الجوامع ذات القبب المذهّبة و المزرفة؟؟؟

    في أحلى منّا بعد ما يرجع من الشغل يتفرّج عا مسلسل النلّي يوسف حيث الأبطال من هاو الممثلين اللي بتضوّي وجوهن,
    هيدا اسمو فن, فن الأسود ( مع فتح الواو, حتى ما ننفهم غلط)

    إعجاب

  3. هذا ليس مستغرب و لا بجديد في لبنان أو أي بلد تنتشر فيه الرجعية (أكانت بحجج دينية أو قومية).
    الموضوع كموضوع الحجاب مثلا… قبل الحرب الأهلية، كان الحجاب نادرًا و من يرتديه كان عن تقاليد تاريخية و ليس عن إلتزام أو تطرف ديني.
    جاء المد الديني، و فرض الحجاب، بحجة الشرف و الأخلاق و ما إلى هناك من حجج.. ظنّت المرأة أنها إذا إرتدت الحجاب، فإن الرجل سيتركها بسلام، تتعلم، تعمل، تعيش حياتها بحرية.
    و لكن بالنسبة للرجل، قبول المرأة للحجاب كان دليل ضعف منها، فلم يتوقف عن الهجوم و أصبح يطالبها بالنقاب و الشادور و البرقع و ملابس أكثر ظلامية.
    المرأة الآن للاسف تكرر الخطأ نفسه في ظنّها أن الرجل سيتركها بسلام إذا تنقبت… إذا خضعت للرجل في هذه الألسبة الدينية الجديدة، فغدًا سيطالبها بالبقاء في المنزل، بعدم الخروج من دون محرم، و الخ.. حتى نصل إلى مجتمع شبيه لطالبان.
    الفكرة نفسها تحصل في معد الفنون الجميلة.. إذا الطلاب و بالأخص الأحرار منهم، خضعوا للرجعية اليوم، فغدًا لن تكون الموديلات العارية فقط ممنوعة، بل حتى رسم الكائنات الحيّة (إنسان و حيوان) بما أنها أيضا محرمة دينيًا!
    (لسخرية القدر، أن رسم صور الخميني و شخصيات حزب الله أيضا محرّم دينيًا، و لكن، كما عند كل الحركات الدينية، الأولوية هي في قمع المرأة و إخضاعها، ثم يأتي كل شيء لاحقًا)

    إعجاب

    1. عبد القادر،
      ليس من المستغرب ما تمارسه الحركات الدينية من المحيط إلى الخليج.
      ليست وحدها تتحمل مسؤولية ما يجري. في الدرجة الاولى، المسؤولية تقع على العلمانيين واليساريين والوطنيين واللادينيين الذين اخلوا الساحات لهؤلاء.
      تحياتي لك ايها المواطن ذو الخواطر العلمانية.

      ياسين،
      الخطاب الديني غريب جداً. وطبعاً، سيستكمل غرائبيته مع توغلنا في الزمن.

      عاصم،
      انت ادرى بما يجري صديقي.

      اصدقائي، اتخيّل بعد عشرة سنوات، سيأتي جيل يشبهنا يسأل “السابقون كيف تجرأوا على الصمت امام كل ما جرى؟”

      إعجاب

اترك رداً على hanibaael إلغاء الرد